قصص النجاح لا بد وأن توثق، والقياديون الناجحون يعتبرون من الثروات القومية التي يجب أن تحافظ عليها البلدان، بل يجب أن تحرص على استنساخ شخصيات أخرى تماثلهم في خط النجاح. أكتب ذلك بعد زيارة عمل قبل يومين قمت بها لشركة الخليج لصناعة البتروكيماويات «جيبك»، واجتماع «غير اعتيادي» مع رئيس الشركة الدكتور عبدالرحمن جواهري. هذه المساحة الصغيرة لا توفي أبداً حق الحديث عن هذا الصرح البحريني الذي وصل إلى مستوى العالمية بجدارة، ولا يمكنها أن تختزل الحديث عن أسلوب الإدارة المتطور والحديث، والذي كنت أظن وجوده في البحرين ضرباً من المستحيل. ابتداء من مستوى الاستقبال وكوكبة المدراء المميزين في الشركة، مروراً بالحديث والنقاش المتقدم من قبل الدكتور جواهري ومدرائه، انتهاء بجولة في هذا الصرح والتعرف عليه عن قرب، بما يجعلك تستغرب فعلاً أن لدينا مثل هذا المكان في البحرين. للوهلة الأولى يجعلك اسم «جيبك» تتخيل نفسك في مصنع معني بالمواد الكيماوية، ما يعني أن هناك تلوثاً ناتجاً بالتأكيد عن العمليات التي تتم، لكن المفاجأة كانت حينما تدرك بأن لدينا في البحرين مصنعاً «صديقاً للبيئة» لا تنتج عملياته اليومية دخاناً ولا محروقات، بل فقط «بخار ماء». في مقابل ذلك، يصعب وصف «جيبك» بأنها مصنع فقط، إذ بالتجول في أرجاء هذه المنشأة، تكتشف أنك تتخيل فيما أشبه بـ «منتجع زراعي» الخضرة موجودة في كل الأرجاء، النظافة بكل ما تعنيه الكلمة، إضافة لوجود محمية للطيور، وأخرى للفطريات، ومزرعة للأسماك فيها قرابة 90 ألف سمكة. في مؤتمر دولي عام 1994، وبعد استعراض تجربة «جيبك»، حصلت مواجهة كلامية بين ممثل الحكومة الأمريكية ومسؤولي وزارة الصناعة الأمريكية، مفادها بأن عليهم - أي القائمين على الصناعة الأمريكية - دراسة تجربة «جيبك» البحرينية وتطبيقها على ممارساتهم، وقيل يومها بأنه للمرة الأولى على مستوى الشركات الصناعية يتم استغلال مجرى تصريف المياه في مزرعة للأسماك واستزراعها، بما يثبت صلاحية مياه البحرين، وبما يكسر القاعدة الروتينية التي تقول بأنه لا حياة طبيعية يمكن توفير مقوماتها بالقرب من المصانع. تجربة «جيبك» تجربة رائدة تستحق الدراسة والتمعن عن قرب، بل هذه المنشأة تستحق أن تكون في صدارة المواقع الحيوية في البحرين التي يمكن زياراتها من قبل الجميع، بالأخص الوفود السياحية، وأقول ذلك لأنني أحسست بمستوى الانبهار والفخر معاً، بأن يكون كل هذا «الإبداع» موجوداً في بلدي البحرين. أما على الصعيد الإداري، فهناك انبهار آخر، فكل ما نكتبه هنا مرات ومرات عن أساليب الإدارة الاحترافية والقيادة العصرية، وبناء البشر وتطوير قدراتهم، رأيته بعيني في «جيبك»، إدارة راقية متطورة ممثلة بالرئيس الدكتور جواهري، والذي يقول بصراحة إنه حتى لو كان الشخص متمكناً وقادراً فإنه لا يمكنه إنجاح أي عمل بدون «كتيبة» وبدون «فريق عمل» مؤهل ومتطور، وعليه فإن الفكرة المترسخة في الشركة بأن هناك قائداً يقود مجموعة قادة، لهم الصلاحيات والمشاركة في القرارات، والجميع يعمل على تحقيق الرؤية الأساسية التي تضع الشركة في مصاف الشركات العالمية الأولى. والأجمل في كل هذا، أن هناك بناء على الإرث الإداري الموجود في الشركة، والذي جعلها لا تتأثر بتغير القيادات، بل جعل هذا أساساً لهم في العمل ومواصلة المشوار، فالدكتور جواهري يذكر بين الفينة والأخرى الجهود الكبيرة واللمسات المؤثرة والواضحة التي بذلها رئيس الشركة السابق الدكتور مصطفى السيد، وكيف أنه «عراب» عملية ربط الشركة بالبيئة وفكرة إنشاء المحميات المعنية بالطيور والأسماك، وكيف أن الأساليب الإدارية التي اتبعها مازالت يعمل بها. هذا المشهد بحد ذاته يجعلك ترفع القبعة لأصحابه، إذ قلما نجد في البحرين وكثير من القطاعات هذه اللفتات من الامتنان والتقدير والشكر على جهود المدارس السابقة والقادة الذين يمسكون بمسؤوليات قطاعات فيطورونها، ومن ثم تأتي الأجيال المتعاقبة لتبني وتكمل على نفس المسار. وبالاطلاع على السياسات الإدارية التي تمضي فيها الشركة، تكتشف بأن هناك تطبيقاً احترافياً لعملية الإدارة الحديثة، بما يعزز الولاء المؤسسي، وبما يصحح كثيراً من مسارات عمليات التخطيط والتنفيذ، مع منح القيمة الحقيقية للموظف والعامل. لدينا في البحرين مكان رائع يمكن أن نحوله لنموذج جميل في الإدارة، وفي التفكير الإبداعي المتقدم، وفي طرائق تنمية الطاقات البشرية وتحفيزها. أتمنى أن تتم دراسة «جيبك» كنموذج للشركات الناجحة التي وصلت لمستويات عالمية متقدمة، وأن نرى مستقبلاً في البحرين كافة قطاعاتنا تدار بنفس الطريقة وتنتج بنفس الأسلوب ويعمل فيها البشر حباً في النجاح والتطوير، وبفاعلية وتلقائية تجعلهم يبدعون أيضاً في جوانب أخرى قد لا تكون مرتبطة بشكل جوهري بالعمل الأساسي للقطاع، مثلما فعلت «جيبك» بجمعها البتروكيماويات مع البيئة في علاقة متلازمة من «الاستحالة» أن تحصل لو فكرنا فيها فرضياً، لكنها على أرض الواقع وفي البحرين تحققت، وأبهرت العالم. شكراً لـ «جيبك»، شكراً لرئيسها السابق والحالي المبدع، ولكافة مدرائها والعاملين فيها، بالفعل نحن كبحرينيين نفخر بكم وبإنجازاتكم.
Opinion
«جيبك».. وما أدراك ما «جيبك»؟!
19 مايو 2016