للأسف ما سنقوله هنا، كان يفترض به أن يكون الخطوة الأولى ذات تحركات استباقية قبل بدء تطبيق «التقشف» على الناس. دائماً اختلفت مع المقولة الرسمية التي كانت يرددها بعض المسؤولين الحكوميين بأن «الحكومة بدأت بنفسها» فيما يتعلق بالـ «تقشف»، إذ كون الكلام يتناقض تماماً مع الواقع، فعمليات التقشف طالت الناس، بل وصلت مباشرة لجيوبهم قبل أن تطال المسؤولين من وزراء وغيرهم والوزارات قبلهم كجهات لها مصروفات مليونية. الخطوة التي كان يفترض القيام بها، بحسب رأي شخصي متواضع جداً، وأعتقد أن الأوان لم يفت بعد لمراجعة الحسابات والقيام بها، تقتضي أن تجلس الدولة والحكومة جلسة طويلة، فيها يتم جرد كافة «مصروفات الدولة»، بحيث تتشكل لدينا جداول فيها أرقام تفصيلية تشير لموازنات كافة القطاعات، مع تحديد أوجه الصرف فيها. ومهم في مثل هذه الجداول التي تحدد الموازنات وأين تذهب، أن يتم تحديد الأولويات المتعلقة بجوانب الصرف، ما يعني استعمال حتى «الكود الملون» في تفصيل الأولويات وتحديد أهميتها وحتميتها، وما يعتبر منها هاماً لا يمكن الاستغناء عنه، وما يعتبر منها «إضافة» أو «أكسسوار» أو «زيادة» يمكن الاستغناء عنه فوراً. أدرك بأن ما أقوله هنا قد يضحك عليه بعض صناع القرار في الجانب الاقتصادي لدينا في البحرين، إذ مثل هذه القرارات - بحسب رأيهم - لا تكون بمثل هذه البساطة التي يمكن شرحها في سطور معدودة، وأنه - بحسب عرفهم - لابد وأن تكون العمليات «معقدة»، وبعضها يفرض عليك «الاستعانة بصديق» عفوا «خبير» أي شركة استشارية أجنبية، لوحدها تأخذ مبلغاً محترماً. لكنني أقول إنه على العكس، أفضل الحلول وأنجعها هو الذي يمكن توصيفه بسهولة ويمكن شرحه باختصار شديد. ولذلك بحسب الاقتراح أعلاه، فإنه يمكن بسهولة تطبيقه على أي واقع، أعني واقع مؤسساتي أو معني بوزارات أو حتى في البيت نفسه، إذ في المثال الأخير يمكن لأي عائلة أن تقلل مصروفاتها من خلال «ترشيد» النفقات، وهذا الترشيد يأتي من خلال الاستغناء عن «الكماليات» واستبعاد كل ما هو «إضافة» وجدت على الصرف الأصلي المفترض أن يوجه على الاحتياجات الضرورية. في وضعنا الحالي، ومع الاحترام الشديد للحكومة ومقولة «الحكومة بدأت بنفسها»، فإن ما نراه ليس واضحاً كفاية لنقر بمصداقية الجملة، فمازالت بعض الوزارات تعمل وكأنها في حالها الطبيعي، هناك وزارات مازالت تصرف على فعاليات مستحدثة لديها يمكن الاستغناء عنها، هناك جهات لاتزال تستبعد عمليات السفر والمشاركات الخارجية من عملية التقشف، وهناك جهات طبعاً «مغلقة الأختام» بشأن معرفة أوضاعها الإدارية والمالية مازالت تمتلك مزايا وإضافات تقارب الشركات الخاصة وتميزها عن باقي قطاعات الدولة، لم نعرف أبداً ماذا فعلت حتى «تتقشف»؟المواطن هو الذي فرض عليه التقشف، شاء أم أبى، ففي بنزين سيارته بات عليه أن يتقشف أو أن يدفع أكثر، وفي تقاعده واضح تماماً بأن المشروع المقترح الجديد سيفرض عليه التقشف في راتبه التقاعدي ومزاياه، وفي الكهرباء والماء وحتى اللحم، والقادم الله يستر منه. كمواطن سأقول لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه تقلبات الزمن وظروفه، و«إن ما طاعك الزمان طيعه»، لكن أيضاً أريد أن أعرف وبالأرقام والشواهد والإثباتات والإحصائيات ماذا فعلت الدولة والحكومة من جانبها في موضوع «التقشف»، أريد أن أعرف كيف أثر التقشف على الوزراء مثلاً، وعلى النواب أيضاً، أريد أن أعرف إسهامات هذه الجهات في مشاركة الناس تقشفها، خاصة وأن التاريخ يسجل بأن علاوة التعطل الـ 1 ? والتي اقتطعت على المواطن «رغماً عنه» لم تكن تقتطع على الوزراء والنواب والشوريين، ما يعني أن هذه الضريبة لم يتشاركوا مع المواطن فيها، فماذا عن التقشف، خاصة وأن هناك أنباءً ترددت هذه الأيام بأن الوزراء وأعضاء السلطة التشريعية لن يطبق عليهم قانون التقاعد الجديد، وهذا إن صح فإنها «كارثة تمييزية» حقيقية. عموماً أعود لمسألة الخطوة الأولى التي تسبق فرض التشقف واللجوء إليه فيما يتعلق بالمواطن، إذ عملية رصد المصروفات وتصنيفها كأولويات ستكشف بالضرورة مفاجآت بشأن بعض المبالغ وكيف تصرف وأين تتجه، وهل نحن بالفعل في حاجة لصرف أموال في هذا الجانب أو ذاك؟!لكن حتى تكون العملية أكثر نجاعة، لابد من ربط هذه العملية الاستباقية مع ما رصدته تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية خلال السنوات الماضية، حيث إن هذه التقارير تضمنت سرداً مفصلاً طويلاً ضخماً يوضح كثيراً من حالات الهدر لمبالغ لو وفرتها قطاعات الدولة المعنية لساهمت في تقليل الصرف وترشيد النفقات. هذه العمليات يجب أن تتم قبل أي خطوة تتخذ لها تداعيات خطيرة باعتبار أنها ستمس المواطن ومعيشته ومدخوله بشكل مباشر، وحتى يقتنع المواطن ويقبل بأن «يتقشف» عليه أن يؤمن أولاً ويصدق ثانياً بأن الحكومة بنفسها «تتقشف» بالأمثلة والإحصائيات والأرقام، وبيان كم وفرت من هذا الترشيد، وكم قللت من المصروفات.