تعد الصحافة المصرية المصدر الثالث من مصادر القوى الناعمة المصرية إلى جانب الأزهر والكنيسة، وقد لعب هذا الثلاثي الوطني أدواراً بارزة في التاريخ المصري المعاصر، مما جعلها أبرز القوى الناعمة التي تمارس التأثير الداخلي والخارجي، وهو ما رشحها لكي تشرف بزيارات خاصة من قبل حضرة صاحب الجلالة ووزيري الخارجية وشؤون الإعلام خلال التواجد في بلدهم الثاني مصر نهاية الشهر الماضي، في واحدة من أهم الأحداث السياسية في المنطقة خلال هذه الفترة، وإن كنا قد تحدثنا عن الأزهر والكنيسة في المقالين السابقين هنا تأتي القوى الناعمة الثالثة، وهي الصحافة التي كانت هدفاً أساسياً للوفد البحريني المرافق لجلالة الملك في هذه الزيارة التاريخية.بدأت الصحافة المصرية في الظهور مع حملة «نابليون بونابرت» على مصر عام 1798، حين أصدر صحيفتين بالفرنسية هما «بريد مصر»، و« العشرية المصرية»، وجهتا إلى جنود الحملة في مصر وأهاليهم في فرنسا، أما المنشورات التي تطبع بالعربية كوسيلة للتواصل مع المصريين وكانت توزع عليهم في الأزهر والقاهرة وتحمل أوامر القائد العام الفرنساوي. وهي وسيلة جديدة عليهم حيث اعتادوا الوسائل الشفهية كالمنادين وخطباء المساجد وركز الخطاب السياسي والإعلامي للحملة في مخاطبة المصريين علي تأكيد احترام الدين الإسلامي والرسول الكريم، وأن هدفهم رفع الظلم التركي والمملوكي عنهم، وهي القوى التي كانت تتحكم في زمام الأمور في ذلك الوقت، ولعبت المنشورات دوراً مهماً في الدعاية للفرنسيين وتهيئة الشعب لتقبل الحملة.وفي عام 1828 أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باسم جريدة «الوقائع المصرية»، وكانت هذه هي البداية الحقيقية للصحافة المصرية، بالمعنى المفهوم للصحافة حيث لم تختص مثل سائر الصحف الرسمية في أوروبا في نشر الأوامر واللوائح، إنما كانت سجلاً لأعمال الحكومة، وأخبارها ونشاطها، وكانت الحكومة حريصة على قوتها واستمراريتها وتحصيل ثمنها من المشتركين فيها، ونالت الوقائع اهتماماً خاصاً من الوالي، ولذا أمر بعدم نشر أي شيء فيها إلا بعد التحقق من صحته، وكان يسيئه أن يرى فيها خبراً تافهاً لا يليق بكرامتها، وخط لها مكانة عالية ومرموقة، وذلك لإيمانه بها وبتأثيرها، وقد توارثت الصحافة المصرية هذا الإرث من الاحترام والتقدير طوال تاريخها حقبة عقب أخرى، بصرف النظر عن حدود الحرية التي تتمتع بها الصحافة في كل فترة زمنية.ولذا حين تولى الحكم بعده ابنه إبراهيم باشا فقد بلغت الصحافة الرسمية في عهده مكانة سامية، وتقدمت تقدماً كبيراً في عهد الخديوي إسماعيل «1863-1879»، حيث تأسست مطابع أوروبية حديثة ساهمت في بروز الصحافة الأهلية، وهو ما ساعدها على تهيئة الرأي العام وتثقيفه في هذه الفترة. ثم صدرت صحيفة الأهرام في 5 / 8 / 1875 كصحيفة أسبوعية كل سبت بالإسكندرية، ثم انتقلت للقاهرة في 1898، ويذكر المؤرخون أن الأهرام بلغت في فترة قصيرة شأناً كبيراً من التقدم والانتشار والرسوخ بحيث أصبحت في طليعة الصحف السياسية في العالم.إلا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882، سعى لمحاربة الصحافة وتضييق حريتها، وهو ما أدى لانبعاث الشعور الوطني عند المصريين، فانشأوا صحفاً وطنية لمواجهة الاحتلال منها صحف «المؤيد» للشيخ علي يوسف، و«الأستاذ» لعبد الله النديم، و«المنار» لمحمد رشيد رضا، والتي حملت الأفكار الإصلاحية للشيخ محمد عبده وكفاحه ضد الاحتلال البريطاني.ثم كانت الصحافة المصرية مرتكزاً أساسياً في الحركة الوطنية خلال الحربين العالميتين، وعودة حزب «الوفد» للحكم خلال الأربعينيات من القرن العشرين، وبعد ثورة 1952 اتجهت الصحف إلى تعضيد الثورة وتقديم رموزها للرأي العام، بعدها تحولت المؤسسات الصحافية «الأهرام وأخبار اليوم وروزاليوسف ودار الهلال» لملكية الدولة بعد صدور قانون الصحافة عام 1960، وأصبحت تابعة للدولة ولعبت الصحافة دوراً كبيراً في نشر المشرع الناصري الداعي للوحدة والقومية العربية والاشتراكية. وللحديث بقية.* أستاذ الإعلام المساعد بجامعة البحرين