منذ مجيء الخميني بثورته المشؤومة وطرحه لفكرة «الولي الفقيه» ثم تسيد إيران من جديد، انحرفت أغلب التوجهات السياسية لكثير من القيادات والأحزاب والتجمعات والجمعيات والتي يغلب على قياداتها وأعضائها انتماؤهم للمذهب الجعفري، والتي كانت في السابق منتظمة وتعمل تحت قبة الوطن، وتحت مسميات وتوجهات متباينة ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكان يجمعها سابقاً هدف واحد بعيداً عن التحزب الديني الطائفي الضيق المقيت، وهو السعي للمشاركة في السلطة والوصول إلى صنع القرار وهذا حق مشروع لهم ولغيرهم، طالما أنهم يستخدمون فيه الأدوات الصحيحة في ممارسة الديمقراطية في ظل الدستور والقوانين النافذة. لقد كانت الأمور السياسية والاجتماعية نوعاً ما مستقرة في الدول التي تتميز بذلك التنوع المذهبي، ومنها مملكة البحرين، وكان الجميع منخرط في العمل السياسي دون اي تمييز او تحسس وكانت المناصب العليا في الدولة وحتى المجالس التشريعية والرقابية كانت ومازالت مشرعة أبوابها للجميع، ولا يتم تكليف الشخص على أساس مذهبه، بل على أساس كفاءته ووطنيته ومقبوليته في المجتمع.وانعكس ذلك إيجاباً في كل مناحي الحياة اليومية للمجتمع، ولكافة طبقاته ومكوناته، فكانت الحياة تسير بنسق متناغم، فالأسواق كانت تعج بالشراكات بين الأفراد والمؤسسات، دون قلق وتخوف، وكذلك مقاعد الدراسة من رياض الأطفال إلى الجامعات، يغلب عليها الانفتاح ومناهجها المعتدلة الرصينة، بل حتى كان الانسجام واضحاً في المجال الرياضي، فلم تكن الجماهير لتصفق لحارس المرمى أو للمهاجم لأنه من المذهب الفلاني، ولا تشجع الفريق لأن تشكيلته يغلب عليها هذه الطائفة أو تلك.كذلك المولعون بمتابعة فنون الأدب والمسرح والشعر، وكل تلك المفردات والفعاليات الجميلة ومنظمات المجتمع المدني كانت تعمل بروح الفريق الواحد، ولقد انصهرت وامتزجت في بوتقة الوطن الواحد، والأهم من ذلك استطاع أبناء البلد المعتدلين في حينها آرسال رسالة قوية جداً للأعداء أن المقومات والمشتركات بينهم وإن اختلفت مشاربهم، هي أقوى وأكبر واسمك من أن يتعرض لها ويخترقها ويمزق نسيجها أحد، ولم تكن تلك الثقافة تتميز بها مملكة البحرين بل كل بلادنا العربية حتى ظهور الثورة الخمينية. فكان التصاهر بين أبناء المذهبين هو التاج المتوج لذلك الانسجام، ولم تكن ظاهرة عابرة مرحلية، بل أمر مرسخ توارثته الأجيال، ينم عن حالة متميزة في الرقي في التعامل والتعايش، والذي تناقلته الأجيال كابراً عن كابر.لكن وللأسف فاليوم الصورة باهتة، ولا يكاد أحد يفك طلاسمها، وكل تلك الصور الجميلة للحياة بدأت بالذبول والانزواء وأصبحت من الأثر وحكايات الزمن الجميل!فأكاد أجزم بأنه لا يوجد حالة مصاهرة إلا ما ندر، تعقده المحاكم الشرعية بين أبناء المذهبين وحتى الأعمال والشراكات هي في أدنى مستوياتها، والشد الطائفي هو على أشده بل وصل الأمر إلى أن تلك الجمعية السياسية أو الخيرية أو القناة الفضائية وحتى الصحيفة الفلانية هي لذلك المذهب دون أن يكون للوطن منها حظاً أو نصيباً.وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل قد تطور الأمر في قيام البعض وخاصة القيادات التي ارتضت لنفسها أن تكون ذيلاً ذليلاً للأجنبي بأن تلعب دوراً تخريبياً في شحن الشارع وتأليبه وبث الإرهاب والخراب متسترة في عباءة المعارضة، ولإرسال صورة مشوهة عن البلد الآمن المستقر إرضاءً لأسيادهم!!ومن يتحمل وزر هذا الشرخ ومحاولة زرع الفرقة والفتنة بين أبناء الوطن الواحد هم بلا شك وبالدرجة الأولى بعض من يدعون أنهم رجال الدين الذين خلطوا بين الدين وسماحته والسياسة، وهم للأمانة، فسطاطان؛ قسم منهم امتهن السياسة ولبس ثوباً غير ثوبه من خلال حزبه وجمعيته وولجها بحسن نية لكنه تعثر ولم يوفق في مسعاه في الجمع بين النقيضين الدين والسياسة، لكنه لم يكن ليرتضي يوماً أن يكون تبعاً لأجندات تملى عليه من خارج الحدود فأولئك عليهم العودة لمنابرهم وكان سعيهم مشكوراً. أما القسم الآخر الذين ارتضوا لأنفسهم التبعية والعمالة والتخابر مع الأجنبي وتسهيل الطريق له لاختراق البلاد فهولاء قد وصلت الدولة معهم إلى طريق مسدود، بعد طول حلم وروية. فكان القرار الجريء الذي اعتمدته القيادة بفصل المنبر عن عالم السياسة ليشمل الجميع، حتى لا يزعم البعض أن «المملكة وقيادتها تكيل بمكيالين»، وجاء القرار بتوقيته المناسب وربما مملكة البحرين وقيادتها والمعروف عنها الحكمة في التعاطي مع الملفات الشائكة هي الدولة العربية الوحيدة التي خطت هذه الخطوة الكبيرة التي هي تثبيت وترسيخ لدعائم الدولة المدنية المؤسساتية الرصينة.وجاء القرار ليميز الخبيث من الطيب، وبعد أن ثبت وباليقين والدليل القاطع أن بعضهم زاغ عن النهج المعتدل، واستغلوا عنوان المعارضة وبإيعاز مباشر من خارج الحدود، من خلال التنسيق والتخطيط والتشاور والتخابر فيما بينهم، للوصول لسدة الحكم والإطاحة بالنظام، فهم بعد أن تعهدت لهم إيران ومرشدها بأن تسلم لهم مقاليد الحكم، فإن لم يكن في الجولة الأولى فستعقبها جولات وجولات، ولذا تراهم وهم قابعون وراء القضبان مصرين على موقفهم ونهجهم وإن أفرجت الحكومة عن أي مدان منهم لحالة إنسانية تراه في اليوم التالي يعتلي المنبر أو منصة الخطابة ويتكلم بنفس التوجه والتحدي السافر.فإن وصلت أي معارضة وفي أي بلد إلى هذا الحد بات من الصعب التعاطي معها وأصبحت كالخلية السرطانية وإن لم يكن في المشفى جراحاً ماهراً وجريئاً يقرر فوراً استئصالها فستأكل الجسد كله، كذلك فإن أي معارضة وتجمع وحزب يثبت تخابره وتلقيه الدعم من خارج الحدود وهمه الوحيد هو إزاحة الآخر والتربع على كرسي الحكم وبروح الثأر والانتقام لا بروح الإصلاح والانسجام حتى وإن سالت الدماء الزكية أودية بقدرها، هنا تتحمل الدولة المسؤولية الشرعية والأخلاقية في وقف التدهور وإعادة الأمور إلى نصابها، فإن تغاضت عن ذلك كما تغاضت من قبلها حكومات ودول عن معارضيها تحت مسميات أو ضغوطات دولية فستكون النتيجة كارثية.اليوم نحن أمام مسؤولية كبيرة تتمثل في رسم خاطة طريق تحت عنوان «لا للطائفية ..لا للتبعية»، وبها سنحافظ على أمن البلاد والعباد، ولا يقع ذلك على عاتق القيادة فقط مع أهميتها بل يجب التكاتف المجتمعي ونبذ الطائفية ومروجيها والتصدي لأي حزب وتجمع ينخر في الوطن واقتلاعه من جذوره وحفظ العباد والبلاد من كيده وشروره.