لم تدهشني الإدانة الصادرة عن الخارجية الإيرانية لقرار الحكومة في البحرين سحب الجنسية من رجل الدين عيسى قاسم، ولا فاجأني تعليق علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإيراني، أن «البحرين وضعت حدًا لإنهاء نظامها بسحب جنسية قاسم»، ولا حتى استغربت من جانبي أن يهدد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري، بإشعال ثورة في المنامة بسبب قرار سحب الجنسية!لا أدهشتني إدانة الخارجية، ولا فاجأني تعليق لاريجاني السيئ للغاية، ولا أثار استغرابي تهديد سليماني، ليس لأن ذلك غير مهم، وإنما لأنه - ولأن ما هو أكثر منه - متوقع تمامًا.فإيران لن تكون إيران التي نعرفها، ونتابع سلوكها في المنطقة هذه الأيام، إذا لم تصدر عنها مثل هذه التصرفات إزاء قرار في دولة جارة، ومجاورة، هو من شأنها الداخلي المجرد، ويخصها وحدها ولا يخص إيران، ولا غير إيران!ما أدهشني حقًا، وما فاجأني فعلاً، وما أثار استغرابي بكل قوة، هو رد الفعل الصادر عن الولايات المتحدة الأميركية تجاه قرار سحب الجنسية!ففي تقرير الخارجية الأميركية عقب قرار السحب مباشرة، قالت واشنطن إن الجهود التي بذلتها مملكة البحرين لتحقيق المصالحة الوطنية، بعد إنهاء احتجاجات الشوارع في عام 2011، قد توقفت، وإن المملكة لم تطبق توصيات بحماية حرية التعبير!وفي المحصلة الأخيرة، تكتشف أن هذا الرأي الأميركي، في قرار سحب الجنسية من رجل دين كان يعمل من أجل تقويض دعائم الدولة في البحرين، إنما يصبّ في النهاية في خانة واحدة مع إدانات وتعليقات وتهديدات الجانب الإيراني. فتسأل نفسك، والحال هذه، عما إذا كان الكلام الذي نسمعه كل يوم من الإدارة الأميركية عن رفضها للسلوك الإيراني في دول الجوار، كلامًا يقوم على مضمون حقيقي، أم أنه نوع من الاستهلاك المحلي الذي لا تبقى له قيمة عند أي اختبار.الأميركان قطعًا يعلمون أن هناك أستاذا للقانون الدولي من الوزن الثقيل اسمه شريف بسيوني، وأن هذا الرجل يعيش على الأرض الأميركية من سنين، وأنه هو الذي وضع تقريرًا في أعقاب احتجاجات شوارع المنامة عام 2011، وأنه طلب إصلاحات محددة، وأن السلطات البحرينية، بشهادته المنشورة، قد استجابت لمطالبه، وأصلحت ما أشار بإصلاحه، وأنه، لا غيره، هو الذي شهد بذلك أكثر من مرة، وفي العلن!شريف بسيوني رجل قانون دولي مُعتبر، وهو مصري يعيش في أميركا، وليس بينه وبين حكومة البحرين شيء يدفعه إلى مجاملتها، وحين جرى استدعاؤه ليكون حكمًا بين السلطة والمعارضة في البحرين، فإن استدعاءه كان لأنه ليس طرفًا في الخلاف بين الحكومة والمعارضة، وليس بالتالي صاحب مصلحة في أن يقف مع هذا ضد ذاك، ولا في أن ينحاز مع الحكومة على حساب المعارضة، ولا العكس. ولذلك، عكف على إعداد تقريره الشهير عكوف رجل العلم، ثم رجل القانون الذي يعرف أن عليه إذا تصدى لأمر أن يتصدى له بإنصاف!وهو لم يأت إلى المنامة، عندما جاء وقتها، على أنه سائح يزور ما يعجبه من الأماكن والمناطق، ولا على أنه مدعو من الدولة البحرينية، وعليه أن يزور ما يُراد له أن يزوره، وليس ما يريد أن يزوره هو، ولا حتى كان قد جاء على أنه صاحب تكليف عاجل عليه أن ينجزه سريعًا، لينصرف عائدًا إلى موطن إقامته.لم يتصرف شريف بسيوني على أي نحو من هذه الوجوه أبدًا، لأن الذين طالعوا أداءه في التقرير الذي أصدره في ختام عمله يذكرون أنه تصرف منذ البداية على أنه صاحب مهمة، وأن هذه المهمة تقتضي منه بقاء طويلاً، وزيارات أطول للبلد، وأن مهمته ليست عادية بالمرة لأنها مهمة تتعلق بحياة بلد عليه أن يمارسها بشكل طبيعي.. حياة بلد، لا حياة شخص!على مستواي، كنت من القاهرة أتابع اكتمال مهمة بسيوني، خطوة بخطوة، وكنت أقرأ في كلامه القليل، وهو يعمل في تقريره ويواصل مهمته، أنه مدرك لأبعاد المهمة وحجمها وأهميتها، وأنه يعرف أن مملكة بكاملها قد استدعته في ظروف خاصة، بل شديدة الخصوصية، ليسعفها فيما كانت تواجهه، وأنها، مقدمًا، قد أعلنت رضاها عما سوف يقضي به، وعما سوف يقوله، وعما سوف يحكم به ويراه!وفي آخر صفحات التقرير، وضع بسيوني روشتة العلاج، وتعامل مع الأمر بين يديه كأنه مريض ممدد أمامه، ثم كأنه هو، أي بسيوني، الطبيب الوحيد المدعو إلى إنقاذه، وإنقاذ حياته!ولم تناقشه المملكة فيما انتهى إليه، ولكنها تناولت منه الروشتة، ثم راحت تأخذ بها، خطوة وراء أخرى.فإذا جاء عيسى قاسم ليقوض هذا كله بكلام، ثم بسلوك غير مسؤول، وإذا جاءت طهران من بعد ذلك، ومعها واشنطن، تحتجان على أن المنامة قد تعاملت مع المخطئ على قدر حجم الخطأ الذي ارتكبته يداه، فأغلب الظن أن كل بحريني ولاؤه لبلده، لا لكيان سواه، قد عرف من جديد أين ومن هم أعداء بلاده، وأين ومن هم أيضًا أصدقاؤه!*نقلاً عن «الشرق الأوسط»
Opinion
ما لا تراه واشنطن في المنامة!
13 يوليو 2016