ما شهدته نيس أخطر مما شهدته باريس أو بروكسيل، وإن كان القتل هو القتل في النهاية. ثمة فارق بين انفجار انتحاري خلال لحظات أو إمطار رواد مطعم بالرصاص، وبين قائد شاحنة يناور لدهس أكبر عدد ممكن من العابرين. نجح المرتكب الفرنسي- التونسي في تسجيل رقم قياسي في عمليات القتل دهساً.لم يكن يَعرف جنسيات من يدهسهم، ولا ديانتهم، ولا مذاهبهم. تصرف بمهنية واحتراف. لم يميز بين ضحاياه. لم يشفق على امرأة أو على طفل أو كهل. جاء في مهمة لرشق العيد الوطني الفرنسي بأكبر عدد ممكن من الجثث. وتكللت المهمة بالنجاح. يا للهول. يغرق العالم في الدم والظلام. الذئاب الجدد أشد هولاً من المستبدين.تراودني أحياناً أسئلة ليست صحافية تماماً. كيف كانت ملامح المرتكب وهو يعبر الجادة الشهيرة فوق الجثث؟ أي حقد التمع في عينيه؟ ماذا كان يدور في أوردة رأسه؟ وهل صحيح انه كان يتحرق شوقاً إلى موعده القريب بعدما يرديه رصاص الشرطة؟ لنترك هذه الأسئلة لعلماء النفس والروائيين الذين سيكتبون كثيراً بالتأكيد عن الذئاب التي تعمل بروح الفريق والذئب المتوحد الذي يهوى المبادرة الفردية.ما يربط مذبحة نيس بكل ما سبقها، نحراً وانتحاراً وذبحاً ودهساً، هو قرار قاطع بقطع الشرايين. يعتقد تنظيم «داعش»، وقبله «القاعدة»، أن الاستيلاء على دول العالم الإسلامي مرهون بقطع شرايين علاقة هذه الدول بالغرب الذي يشكل في نظره المظلة الحامية لهذه الأنظمة. الغرب بحضوره السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي وقدرته على التدخل عسكرياً عند الاقتضاء. كما يعتقد هؤلاء أن تثوير العالم الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا على نار حامية، أي على دوي إشعال خطوط تماس مع الأديان والحضارات والمذاهب الأخرى.افتتحت سياسة قطع الشرايين بـ «غزوتي نيويورك وواشنطن». لم يكن من باب المصادفة اختيار هوية المنفذين. كان الغرض إحداث شرخ مدمر في العلاقات الأميركية- السعودية كنموذج يمكن تكراره لاحقاً في العلاقات الإسلامية- الأوروبية.تستهدف عملية قطع الشرايين أيضاً إنهاك الغرب في هذا النزاع المفتوح. قطع شريان الأمان في العواصم الغربية لا يستنزف الهالة وحدها بل يستنزف معها اقتصاداً سرعان ما تعبر البورصات عن هشاشته. شريان مهم آخر يستهدفه التكفيريون هو شريان السياحة الذي يوفر لدول مثل فرنسا وإسبانيا وتركيا مداخيل هائلة. لدينا درس طازج ومعبر. الهجمات التي استهدفت الشرايين التركية وترافقت مع عودة العمليات العسكرية الكردية أرغمت السلطان المكابر على رمي سياساته السابقة في مياه البوسفور والاستعداد لتجرع مرارات كان يرفض مجرد الإشارة إليها.ثمة ما هو أخطر، وهو محاولة قطع الشرايين التي تربط الجاليات العربية والإسلامية بالبلدان التي استقبلتها. لا بد من الاعتراف هنا بأن البغدادي حقق في هذا المجال ما تعذر على أسامة بن لادن تحقيقه. فتْحُ باب الكراهيات والريبة بين الجاليات والدول التي استقبلتها يحوّل أبناء الجاليات ألغاماً وضحايا ويضاعف تهميشهم ويقدم فرصة ذهبية للتيارات المتطرفة والأصوات العنصرية. بعد أحداث بروكسيل شاهدت القلق في عيون ركاب المترو كلما صعد عربي حاملاً حقيبة.رجلان ارتكبا إثماً كبيراً في العاشر من حزيران (يونيو) 2014 موعد استيلاء «داعش» على الموصل. الأول باراك اوباما الذي أصيب بهاجس الابتعاد من مستنقعات الشرق الأوسط. والثاني فلاديمير بوتين الذي كان يتحين الوقت المناسب للاصطياد في بحيرة الدم السورية. تركا «داعش» يستقر والنفط يتدفق في شرايين «دولة الخلافة» ما مكّنها من إعادة إطلاق سياسة قطع الشرايين.«داعش» محكوم بالخسارة حيث يقيم تحت عنوان معروف. أخطر ما فيه استمرار قدرته على اجتذاب أبناء بعض الجاليات واستخدامهم في عملية قطع الشرايين. مذبحة نيس مجرد محطة في حرب عالمية طويلة. يحتاج العالم إلى حلول كبرى تقطع شرايين اليأس والكراهية التي تنجب «داعش» وأخواته.*نقلاً عن «الحياة»
Opinion
قطع الشرايين
17 يوليو 2016