مقطع صغير أرسله لي أحد الأصدقاء يوم أمس، يعرض جزءاً صغيراً جداً من الفيلم «البوليوودي» الرائع «اسم خان» للفنان المسلم الهندي الشهير «شاروخان». المقطع تتحدث فيه والدة شاروخان «رضوان» اسمه في الفيلم، مخاطبة ابنها لتحاول تصفية ذهنه من أحداث عنف حصلت في حيه بين الهندوس والمسلمين، وبافتعال من الفئة الأولى. الابن المصاب بالتوحد لم يستوعب ما حصل، وهل الهجوم جاء على حيهم لأنهم مسلمون فقط؟!الأم الحكيمة، الواعية في تربيتها لابنها، والرافضة لتصنيف الناس حسب أديانهم ومذاهبهم، أخذت تشرح له ببساطة وعبر الرسم عن «ماهية» الإنسان، وكيف نحكم على البشر، والأهم كيف نصنفهم؟المتتبع لبداية حديثها قد يتوقع أنها ستمضي لتبين له بأن الهندوس كارهون للمسلمين، وأن هذه الأفعال إجرامية هي ديدنهم، وأن المسلمين جميعهم مضطهدون في المنطقة. هذا الخطاب الذي تتوقعه في بداية المشهد، من شأنه أن ينتج عن رد فعل بديهي لدى الطفل الصغير، بحيث يجعله يكبر وهو مختزِنٌ في قلبه كرهاً للطائفة الأخرى، كرهاً يغذيه ويكبره معه، وتزيد مساحته حينما يساهم الوالدان والأقارب والأصدقاء في إذكائه ورمي مزيد من الحطب في هذه النار الموجودة في الصدر. لكن الأم الواعية، ابتعدت في شرحها تماماً عن التصنيفات، وعن المذاهب وعن أي شيء يمكن أن يجعل طفلها يقيم نفسه وشخصه بحسبه، أنسته وهو يستمع لها ما إذا كان مسلماً أو هندوسياً أو مسيحياً، جعلته يستمع لها وهو مؤمن بكونه إنساناً يعيش على هذه الأرض، ومعه فيها مجموعات بشر لا تختلف عنه في التكوين وفي المشاعر والأحاسيس. قالت له بأن هناك نوعين «فقط» من البشر لا ثالث لهما، نوع يعمل الخير وهم الأخيار، ونوع يعمل الشر وهم الأشرار. وعلى الإنسان بناء على ذلك أن يعمل الخير ويتجنب الشر. هذه الجملة الذكية في مقصدها التربوي هي ما جعلت الصبي الصغير الذي يعاني من التوحد، جعلته يرى الدنيا بعين مختلفة، بل جعلته ينظر للبشر بشكل مغاير تماماً. وبناء على هذا التوجيه الذي جاءه من أقرب الناس إليه، من والدته التي يصدقها ويؤمن بما تقول، ويعتبرها الملاذ الآمن له، اعتبر هذه النصيحة وهذا القول «أمراً مقدساً» لا بد وأن يتبعه، باعتبار أن من الاستحالة أن ينصحك والداك بأمر فيه مضرة لك وقد يودي بك للتهلكة والضياع. التنشئة الأسرية هي أساس المجتمعات، هي التي تفرز لنا بني البشر وتحولهم إما لأخيار أو أشرار، وتأثير الوالدين في أي اتجاه كان لا بد وأن يكون عاملاً مؤثراً في تشكيل عقلية الناشئة وفي توجيههم وفي تقرير مصيرهم حينما يواجهون الحياة. بالتالي الاستخفاف أو التقليل من قدر دور الآباء في تشكيل شخصيات أبنائهم، مسألة فيها من التهور الشيء الكبير. العائلة هي الأساس، وهي المدرسة الأولى، والأبناء يشبون على ما يرون عليه آباءهم، وعلى ما يوجهونهم به. أنت تولد فلا تختار جنسك، ولا اسمك، ولا مذهبك، بالتالي المسؤولية الكبرى تقع على الوالدين في حفظ مستقبل أبنائهم، في توجيههم للعيش بشكل صحيح في هذه الدنيا، كبشر وأناس يعملون الخير، ينفعون أنفسهم وبلدهم ومجتمعهم ومحيطهم. التنشئة على الخير وحب فعل الخير، تزرع لك زرعاً طيباً حميداً، وتخلق لك أجيالاً واعية من البشر الإيجابيين المطورين الساعين للبناء والتعمير وخدمة الناس، وعلى العكس صحيح أيضاً، من يزرع الشر يحصد الشر، وما أكبر جريمة يرتكبها الآباء حينما يزرعون الشر في أبنائهم، وكأنهم يرخصون بهذه الروح التي تكبدوا عناء حتى ترى النور، فبدلاً من حفظها يتم تضييعها. ما أضاع الأجيال الناشئة إلا العصبية والجاهلية الأولى، والتمترس حول المذهب والدين ورؤية الآخرين بنظرة العداء والكره، وليته كره ناجم عن موقف مؤسس أصلاً على مبررات منطقية معقولة، لكنه كره لا مبرر له سوى أحداث جدلية حصلت قبل قرون، أو أطماع شخصية مرتبطة بالسياسة والنفوذ، أو تعصب للمجموعة أو العرق أو الدين. والله حينما تخرج الروح من جسد الإنسان، لن يرى سوى شريط سريع يلخص له حياته، سيتذكر فيها اللحظات التي يتحسر عليها ويأسف على قيامه بها، لكن ما سينفعه في الآخرة الخير وحده ولا شيء غيره. الناس صنفان، أشرار وأخيار، ولا ثالث لهما، وانتهبوا لتنشئة أبنائكم فما تحصدون إلا ما تزرعون.
Opinion
وما تحصدون.. إلا ما تزرعون!
09 أغسطس 2016