خبران نشرا أمس في صحيفتنا يتحدثان عن الرشوة. المضمون واحد، أي ظاهرة «الرشاوى» لكن الفعل متباين ومختلف.في الأولى كان طالب الرشوة هو المفترض أن يكون الأمين على موقع عمله، وفي الثانية كان رافض الرشوة هو الأمين على موقع عمله.في الفعلين تناقض واضح، أحدهما فعل حميد لابد وأن تتم مكافأة صاحبه من منطلق أمانته وحرصه، وفي الثاني لابد من محاسبة فاعله، لأنه أخل بالأمانة أولاً، ولأنه شوه سمعة الجهة التي ينتمي لها ثانياً. الخبر الأول يقول بأن عائلة تفاجأت بطلب موظف في إحدى السفارات رشوة تحت مسمى «بقشيش» نظير إتمام عملية الحصول على التأشيرة. وهنا يسجل للعائلة موقفها بأن أبلغت عن الفعل فوراً، ونشرته في الصحافة، ونحن نجزم بأن الجهات المعنية على رأسها وزارة الخارجية كونها معنية بشؤون السفارات ستتابع الحادثة باهتمام. ورغم إدراكنا لخصوصية السفارات، واعتبار أراضيها تابعة للدولة التي تمثلها، ما يعني تمثل أفرادها بالحصانة التي تجنبهم المسائلة القانونية، إلا أن وجود ظاهرة مثل التي بين أيدينا عبر طلب رشوة وإن كانت حالة صادرة عن فرد لا يمثل بعثة دبلوماسية بأكملها، إلا أنها ظاهرة لها تأثيرها على أفراد المجتمع البحريني، إذ تخيلوا لو أن العائلة التي تعرضت للحادثة سكتت، بالتأكيد ستكون بعدها محاولات تلو الأخرى ومع عوائل مختلفة، والبعض متوقع أن يتعاطى إيجاباً مع الموظف باعتبار أنه يريد تسهيل أمور الحصول على تأشيرة نظراً لتعقيدات المسألة. هنا أمامنا حالة إخلال بأمانة الوظيفة، وإساءة من قبل الموظف لمكان عمله، باعتبار أن تصرفاته هذه تخلق لدى الناس صورة سيئة عن المؤسسة بأكملها لا الفرد نفسه. مجتمع البحرين يرفض هذه التصرفات، فهو لم ينشأ عليها، ولم يتعايش معها، بالتالي أي شخص يمارس الابتزاز المهني بهدف التحصل على رشاوىٍ هنا وهناك، فهو يحكم على نفسه بالمسألة القانونية والمثول أمام القضاء، بغض النظر عن منصبه وموقع عمله. مثل عملية مد اليد إلى المال العام وإهداره، مثلها عملية الرشوة التي هي أصلاً مد اليد لمال الغير دون وجه حق، فلا هي رسوم تؤدى للجهة، ولا هي ضرائب مفروضة على البشر، بل هي من جيب المواطن إلى جيب الموظف، وهذا تصرف آثم مرفوض. ومثلما فعلت العائلة حينما بلغت وكشفت عن هذه الحادثة، فإن من واجب كل مواطن أن يفضح حالات الرشاوى هذه، وأن يقدم للمحاسبة كل من يستغل موقعه الوظيفي لأجل التكسب من وراء الناس. رسولنا الكريم صلوات الله عليه قال في معرض الحديث الشريف: «لعن الله الراشي والمرتشي»، وعليه فإن مرتكب الفعل ملعون والقابل به في نفس منزلة اللعن، واللعن هنا هو الطرد من رحمة الله. أما الحادثة الأخرى، فهي التي تشرفنا بالفعل كمجتمع بحريني معروف برفعة أخلاقه وسمو أفعاله، إذ قامت رئاسة الجمارك من خلال الشيخ أحمد بن حمد آل خليفة بتكريم يوسف الجودر الموظف في قسم الطرود البريدية، بعد رفض الأخير قبول رشوة قدمها أحد المستوردين، وبناء على ذلك نجحت إدارة الجمارك في القبض على «الراشي» بعد كمين أعدته. هذا مثال جميل للإنسان المخلص في عمله، الذي يرى الله قبل كل شيء، ويتذكر واجبه الوطني والرافض بأن يستفيد من وراء موقعه، حتى وإن كانت لديه حاجة. أمثال هذه النماذج الطيبة هم من يمكنك وصفهم بأنهم حماة للمال العام، وأشخاص حريصون على سمعة مواقع عملهم والتي هي جزء من منظومة الدولة، بالتالي هم أفراد يعملون من أجل بلدهم ويرفضون ما يسيء لها ويمسها. طبعاً خيراً ما فعلته الجمارك بتكريمها هذا الموظف النظيف النزيه، إذ تصرفات رجولية محترمة كهذه لا يجب أن تمر هكذا كمرور الكرام، التقدير حتى وإن كان معنوياً أمر واجب وحتمي، وترك هذه الحالات بلا اهتمام، واعتبارها حدثاً عادياً عرضياً، هو الخطأ الذي يمكن أن يحول أمانة الناس إلى خيانة، وهو الذي يمكن أن يجعل وازع الشخص الوطني يتزعزع. أخطر ما يكون على المجتمع هو استغلال البعض مواقع عملهم ليستغلوا الناس وأيضاً ليشوهوا سمعة هذا القطاع، حالهم كحال من يعمد لتشويه سمعة وصورة بلده. الأمانة صفة راقية لا يتحلى بها سوى الشرفاء، ومن يخون الأمانة نتوقع منه أي شيء، من السرقة الصغيرة إلى سرقة وطن بأكمله!