إن المقابل المالي العائد من الأعمال موضوع التعاقد يمثل الدافع الحقيقي للمتعاقد مع الإدارة لإبرام العقد الإداري، ولا يصطدم هذا المفهوم مع كون المتعاقد مع الإدارة معاوناً ومساعداً لها في تسيير مرافقها بانتظام وباطراد من خلال العقد الإداري، ذلك أنه يسعى في المقام الأول لتحقيق الربح الذي يمكنه من الاستمرار في تسيير أعمال شركته أو مؤسسته، ولذلك فإن حقه في الحصول على المقابل المالي المتفق عليه في العقد يعد من أهم حقوقه على الإطلاق.ورقابة القضاء على مدى التزام جهة الإدارة لشروط أدائها المقابل المالي تعتبر صورة من صور الضمانات القضائية المستقرة والمقررة للمتعاقد مع الإدارة.إن المقابل المالي قد يكون ثمناً للبضائع الموردة أو الخدمة المطلوبة أو الأشغال المتعاقد على تنفيذها، وقد يكون مرتباً شهرياً كما هو الحال في بعض عقود التوظيف. أما إذا كان المتعاقد مع الإدارة يؤدي الخدمة للمنتفعين مباشرة -كما هو الحال في عقود الامتياز- فإن المقابل المالي في هذه الحالة يكون في صورة رسم يتقاضاه من المنتفعين، ما لم يكن عقد الاستغلال غير مباشر أو مناصفة الاستغلال بين جهة الإدارة والمتعاقد معها، حيث يتقاضى الأخير المقابل المالي من جهة الإدارة.وقد يشمل المقابل المالي أيضاً بالإضافة إلى الثمن أو الرسم -على سبيل المثال - مزايا مالية أخرى كضمان حد أدنى من الربح، أو التزام جهة الإدارة بإقراض المتعاقد معها مبالغ في حدود معينة، أو ضمانة لدى البنوك للحصول على بعض القروض. ويتوجب على جهة الإدارة الالتزام بأي منها إذا تم النص عليها في العقد المبرم بينها وبين المتعاقد معها.وعادة ما تكون سلطة جهة الإدارة مقيدة في تعديل الشروط المتعلقة بالمقابل المالي، كونها شروطاً تعاقدية -بخلاف شروط الرسم الذي يتقاضاه الملتزم من الجمهور- وأساس تقييد يد جهة الإدارة في ذلك التعديل مرده أولاً: إلى أن سلطة التعديل تستند إلى مقتضيات حسن سير المرافق العامة وانتظامها، وبالتالي فإن تلك السلطة لا تنصب إلا على تلك الشروط ذات العلاقة بتلك المرافق، وليس من بينها تلك التي تحدد المقابل المالي في العقد. وثانياً: فإن عدم تقييد سلطة الإدارة في تعديل الشروط المتعلقة بالمقابل المالي، يجعل الشركات والمؤسسات تنفر من التعاقد مع جهة الإدارة، حيث لو تم إطلاق يدها في ذلك، فإنها سوف تلزم المتعاقد معها بشروط مالية رغماً عنه، وهذا ما لا يجوز، كون الشروط المالية تعتبر من الشروط التعاقدية التي تستلزم موافقة الطرفين.ومن أحكام المحكمة الإدارية العليا المصرية في هذا الصدد، حكمها الصادر في 27/4/1968، حيث تعاقدت محافظة القاهرة مع أحد الأفراد على توريد نخيل، ونص في العقد على أن يُدفع للمورد ثمن نصف النخيل عقب زراعته مباشرة. قام المتعاقد بتوريد النخيل -طبقاً للمواصفات- وبزراعته، وطالب المحافظة بأن تدفع له نصف الثمن المتفق عليه، ولكن المحافظة رفضت بحجة أن نسبة النجاح في النخيل ضئيلة، وأن على المورد أن يقوم «بترقيع» النخيل الذي لم ينجح.ولكن كلاً من محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا رفضتا مسلك الإدارة على أساس أن نصوص العقد صريحة في وجوب دفع نصف الثمن مقابل التوريد والزراعة. أما عدم نجاح النخيل، وضرورة ترقيعه، فتعالجه نصوص أخرى.ومن أحكام مجلس الدولة الفرنسي التاريخية بشأن الوفاء بالثمن وما يترتب عليه نتيجة أية تغييرات اقتصـادية، حكمه الصادر بتاريخ 24/7/1912 الذي قـرر فيه أن « اتفاقات إعفاء الإدارة من المسئولية في التأخير في الوفاء بالثمن، لا تحول بين المتعاقد والحصول على تعويضات، إذا كان تأخر الإدارة عن الوفاء بالثمن تأخراً غير عادي، أو تم بسوء نية من جانبها».ويقرر مجلس الدولة الفرنسي بأن الشروط المتعلقة بتغيير المقابل المالي تتسم بالطابـع التلقائي، أي يتم تغيير المقابل المالي تلقائياً بتغير الظروف الاقتصادية للعقد المحددة سلفاً بواسطة المتعاقدين. حيث إن حساب التغيير التلقائي في المقابل المالي المقرر للمتعاقد يتم عن طريق المقارنة بين قيمة بعض المعطيات الأساسية للعقد في وقت إبرامه وقيمتها وقت حدوث التغييرات الاقتصادية المتوقعة. ومن أهم هذه المعطيات، أجور العمالة، وأسعـار المواد الأولية للمشروع محل التعاقد، والتغييرات الضريبية المتوقعة. كما قضى بأن أسس تغير المقابل المالي الواردة بالعقد تكون واجبة التطبيق بمعرفة القضاء في حالة امتناع أحد المتعاقدين عن تطبيقها، وأن سلطة القضاء في هذا الشأن لا تمثل تعديلاً في نصوص العقد رغماً عن إرادة المتعاقدين، وإنما هي تطبيق صحيح لإرادتهما في خصوص تغير المقابل المالي على ضوء التقلبات الاقتصادية المتوقعة.وبالإضافة إلى سلطة القاضي في تطبيق الشروط الواردة بالعقد بشأن المقابل المالي المستحق للمتعاقد مع الإدارة، فإن قاضي العقد يملك بطبيعة الحال أن يحكم بالتعويض لصالح المتعاقد الذي أضير من جراء تراخي الإدارة في تطبيق تلك الشروط.
Opinion
الرقابة القضائية على التزام الإدارة بأداء المقابل المالي
18 أغسطس 2016