بين 23 أغسطس و14 سبتمبر من كل عام، يطارد اللبنانيين شبح بشير الجميّل مُذكّراً بسوء تعامل مواطنينا مع تاريخهم وفشلهم المزمن في طي ملفات حروبهم.فالرئيس المنتخب الذي قضى في انفجار سبق تسلمه الولاية الدستورية، يعيد في هذه الفترة من كل سنة النقاش الذي بدأ مع مصرعه ولم يصل إلى نتيجة بعد: هل هو «مرشح الدبابات الإسرائيلية» التي أوصلته إلى رئاسة الجمهورية في ظل الاحتلال الهائل في موازين القوى غداة حصار بيروت وضرب منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها؟ أم هو تعبير عن توق اللبنانيين إلى التحرر من «الاحتلالات» بما فيها الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو تطلب الأمر القفز من تحالف مع محتل إلى تحالف مشابه مع محتل آخر؟بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، جرت محاولة لإدراج الحريري وبشير الجميل وكمال جنبلاط وعشرات غيرهم من السياسيين الذين قتلهم حافظ وبشار الأسد في لبنان، ضمن خانة واحدة هي خانة الذين واجهوا «نظام الوصاية السورية على لبنان».هذه محاولة تدعو الى السخرية ذلك أنها تتأسس على تجاهل الواقع الصريح وهو أن كل واحد من هؤلاء، بمن فيهم الجميّل عام 1976، مر بمراحل أنشأ فيها تحالفاً وثيقاً مع الحكم السوري وتبرع منفذاً سياسات الأسد في بلده ضمن سلوك معروف في لبنان منذ قرون وهو محاولة استغلال الحليف الخارجي ضد العدو المحلي.يضاف إلى ذلك، أن المحاولة التلفيقية هذه تقوم على سعي إلى اختراع تاريخ وطني «حيث لا تاريخ ولا وطن صيغا حتى اليوم» يشغل فيه «السوري» - وهذه كلمة كان الجميل من مردديها وتحيل إلى تنميط واضح في عنصريته - مكان العدو المُجمع على العداء له، إلى جانب «الفلسطيني» و«الإسرائيلي»، أي أصحاب الاحتلالات المشكو منها في الحكاية اللبنانية التي يرغب بعضنا في قلبها إلى خطاب حامل لرؤية الجماعة الوطنية.واحد من مآزق لبنان اليوم أن من عايش تلك المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان، يورثها بكل تناقضاتها إلى الأجيال الجديدة التي تجدد الانقسام الطائفي وتعيد إنتاجه مع بعض التحويرات التي تقتضيها الظروف. فيجري إهمال جانب من سيرة بشير الجميّل لمصلحة التركيز على جوانب أخرى، مثله في ذلك مثل غيره من السياسيين وزعماء الطوائف والميليشيات الذين صنعوا الحروب اللبنانية وما زالوا يخوضونها حتى اليوم عبر ورثتهم البيولوجيين أو السياسيين.حالت التسويات السياسية التي أعقبت اتفاق الطائف واتسمت بقدر عالٍ من التهرب من مواجهة الحقائق ومنها حقيقة فرض نظام الأسد روايته لأحداث الحرب وتقييمه لشخصياتها وأداورهم وحقيقة طي صفحات الاقتتال الأهلي من دون مصالحة جدية بين أطرافه نتيجة هزيمة المسيحيين واعتقاد المسلمين بقدرتهم على جعل انتصار النظام السوري انتصاراً لهم، حالت هذه التسويات دون تعميم رواية تاريخية موضوعية للحرب التي ظلت أحداثها حبيسة مؤلفات أكاديمية وأرشيفات مغلقة، في حين أن قصة الحرب تتبدل وتتغير وفقاً لأهواء ومصالح القوى النافذة وفق المراحل.الود المستجد لبشير الجميل في صفوف المسلمين السنّة المؤيدين لتيارات «14 آذار»، قد لا يختلف كثيراً عن المحبة الزائدة التي يبديها المسلمون الشيعة لميشال عون بعد تفاهمه مع «حزب الله» وإعلان تأييده بشار الأسد. بيد أن الموقفين لا يصدران إلا عن «تكتيك» يضع التاريخ في موضع اللعبة اليومية.* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية
Opinion
شبح بشير الجميّل
27 أغسطس 2016