هناك مبادرات جميلة جداً في البحرين تستحق تسليط الضوء عليها، خاصة فيما تقدمه من قيمة مضافة تهدف للارتقاء بالممارسات في المجتمع. قبل الخوض في تفاصيل ما أقول، لا بد من التذكير بأننا في البحرين عشنا لعقود عديدة على موروثات انتقلت من أجيال لأخرى، كانت غالبيتها تركز على طبيعة المجتمع البحريني، وممارسات العائلة البحرينية والأخلاقيات التي تكبر وتترسخ لدى الأجيال الناشئة، كنا نعيش في صفاء ذهني اجتماعي لا تستهدفه أفكار هدامة، بل على العكس كانت البيئة المحيطة شبه مثالية لأن يكبر فيها الناس مكتسبين عديداً من الخصال الطيبة، ولذلك فإن سمة أهل البحرين التي تناقلت بين الأجيال المختلفة جعلتهم أبلغ مثال يوصف بالطيبة والحب والتعامل الطيب. هذه الموروثات آخذة في الانحسار والاختفاء للأسف، في ظل المتغيرات التي طرأت على مجتمعنا، وارتباط ذلك بالمتغيرات المعنية بالتطور التكنولوجي والانشغال بمشاغل الحياة التي جاءت على حساب العائلة، والتهاء حتى الوالدين عن أبنائهم بسبب الظروف العملية. بالتالي -وهنا أرجع للنقطة الأولى- هناك مبادرات رائعة لا بد وأن تحصل على قدر الاهتمام الذي يواكب أهمية أهدافها، وأن نعمل على دعمها وتقويتها، خاصة إن كانت مبادرات لا تصدر عن جهات رسمية في الدولة، بل عن جهات أهلية وجمعيات يعمل أفرادها تطوعاً في سبيل تحقيق الأهداف التي يؤمنون بها. برنامج مثل برنامج «كن حراً» الذي تنظمه جمعية البحرين النسائية، وله امتداد زمني يصل إلى أكثر من سبعة أعوام، برنامج يستحق دراسة تجربته، بل يستحق أن نقيس أثره على المجتمع البحريني. البرنامج يأتي من جملة برامج تعمل عليها الجمعية، لكنني أراه أحد أهمها كونه يستهدف أهم شريحة بتشكيلها الصحيح يمكن تشكيل المجتمع ومستقبله، وأعني هنا شريحة الأطفال. رغم ضيق المساحة الإعلامية الممنوحة لمثل هذه البرامج، ورغم اهتمام الإعلام بمختلف وسائله بأمور أخرى يمنحها أولوية أو قدراً أعلى من الأهمية، إلا أن بضعة أخبار عن مثل هذه المبادرات تجد طريقها للنشر والإبراز الإعلامي ولو بشكل خجول، الأمر الذي يفرض علينا -كما قلت- دعم هذه المبادرات لما تمثله من أهمية. البرنامج معني بأطفالنا الصغار، وينطلق من رؤية جميلة تقول بأنه -أي البرنامج- يعمل «لعالم آمن من الاعتداء على الأطفال مليء بالحب، يطمح للسلام»، ورسالته تقول بأنه «واحة للرجوع إلى إنسانيتنا، بعيداً عن العنف، يساعد في وضع حلول للتسامي على ألم الاعتداء، ويساهم في الوقاية من التعرض لأنواع الإساءة، ويبني علاقات قائمة على المحبة والمودة والعطاء، تثقيفاً وتدريباً وتمكيناً».البرنامج لديه أهداف سامية، يهدف إلى بناء الأطفال ليكونوا أقوياء وأذكياء وآمنين، بل يعمل على تمكين الأطفال ضحايا اعتداءات الطفولة لاستعادة ثقتهم بأنفسهم ليكونوا فاعلين في المجتمع، دون إغفال جانب أولياء الأمور من خلال العمل على تثقيفهم بمهارات تنشئة الأطفال بطريقة تجعلهم يتحلون بالذكاء العاطفي. البرنامج قائم على فعاليات عديدة، منها استشارات ودورات متخصصة، وأنشطة ينجذب لها الأطفال وتسهم في تطويرهم وتفتيح مداركهم وتقريبهم من الواقع بطريقة ذكية، يتم من خلاله بناء الطفل بشكل صحيح وبما يجعله آمناً على نفسه، متعاملاً بذكاء مع المجتمع، في ظل اهتمام ورعاية عائلية مسؤولة. في رأيي أننا أمام عملية رائعة تستهدف تحقيق أهداف سامية، معنية بأجيال قادمة على عاتقها يقع بناء المجتمع والنهوض به، وحينما يكون لها نصيب من التهيئة الصحيحة ومن البناء العلمي التربوي السليم، فإننا نساهم بشكل مؤثر في بناء الوطن، وضخ الطاقات الإيجابية في جميع اتجاهاته. مشكلة البعض أنه لايزال يستهين بالعملية التربوية التي تستهدف الأطفال، مازال يرى في الأطفال فئة عمرية كل ما عليها أن تحظى بأجواء المرح واللهو واللعب، ولا يرى بأساً إن لم يخضعوا لأساليب تربوية صحيحة أو طريقة إعداد ممنهجة. في الغرب لا يترك الطفل هكذا حتى يصل لمرحلة عمرية متقدمة ثم يتم الالتفات له ومحاولة تعليمه أساسيات ومبادئ التعامل مع الحياة، حتى في جانب حماية نفسه، بل هم يعلمونهم منذ الصغر، لتكبر هذه المبادئ معهم وتصبح جزءاً مما يؤمنون به. هناك تهيئة للأطفال وقبلهم لعوائلهم وذويهم، ولأن الاقتناع مشترك ولأن إدراك الأهمية موجود، نرى التهيئة ذات ثمار واضحة، بل نرى اتجاه المجتمع يصب في اتجاه دعم هذه المبادرات بقوة. هذا البرنامج «كن حراً» يستحق القائمون عليه الشكر، اليوم أطفالنا محتاجون أكثر لما ينور بصيرتهم ولما يفتح آفاقهم بما يساعدهم على حماية أنفسهم من الاعتداءات، باختلافها، فقد لا يكون الاعتداء فقط جسدياً، بل أخطر من ذلك، حينما يكون اعتداء على الإرادة وسلبها، اعتداء على حرية التفكير وسرقته، اعتداء على المفاهيم الوطنية وسلخها. حماية أطفالنا مسؤولية أولى لا يجب الاستهانة بها، حمايتها صون وحفظ للوطن، والاستهتار بها خسارة لأعز ما يملكه الوطن.