إن كان هناك من مازال يراهن على وجود استمرارية لما أسمي بـ»الربيع العربي»، ظاناً بأن هناك خيراً من وراء ذلك فهو واهم.نعم، هناك دول تغيرت فيها أنظمة، ودول قام شعوبها بقتل من كان يحكمهم باعتبار أنه ظلمهم وكان ديكتاتوراً، وغيرهم من فعلوا كل شيء ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، فلا هم حكموا، ولا تعافت دولهم.من يقرأ المتغيرات بعد هذه الموجة التي حصلت في بعض الدول، واتضح بأن كثيراً منها كان مبعثها «شرارة» صغيرة، تراكضت عليها قوى عظمى و»دكاكين» لحقوق الإنسان، لتنفخ عليها وتشعلها لتتحول إلى محرقة كبرى، أقول بأن من يقرأ المتغيرات، سيجد بأن غالبية هذه الدول بل كلها مازالت تعاني من «مخاض» صعب، وتحول الحراك فيها من اتجاه «التغيير» وهو ما مثل الهدف الأول لما حصل، تحول إلى حراك وكأنه يسعى لبناء دولة من الصفر.إن كانت هناك دول عربية عاشت شعوبها مع بعض الصعوبات، سواء على صعيد الإدارة المجتمعية وتطويرها معيشياً ومدنياً إضافة إلى طرائق السلطة الحاكمة، فإن اليوم صعوباتها أكبر، إذ عملية ترتيب أي مكان بعد تعرضه لفوضى عارمة، وبعد انقلاب حاله مرات ومرات، تحتاج لجهود طويلة مضنية، تحتاج لأموال تصرف وإمكانيات، وتحتاج إلى بشر لديهم الصبر ويقبلون بالتضحية لسنوات من أعمارهم ليعيدوا تعمير ما تم هدمه.أقول تعمير ما تم هدمه، لأن ما شهدناه كان بمثابة عمليات هدم لكيان بني في السابق، ومرتبط بالحقبة الماضية، وفوضى «الخريف العربي» هذا بينت كيف أننا كمجتمعات عربية، حتى لو سعينا لأي تغيير، فإننا نمضي أولاً لنحرق بلدنا ونقلب عاليها سافلها، ونفرض الفوضى على كل شيء بحجة أن النظام السابق لم يأتِ بخير أبداً، وعليه حينما «تذهب السكرة وتأتي الفكرة» تكتشف بأنك في مكان لا هوية له، ولا نظام فيه، غابة فيها بالضرورة فوضى بين أفراد وجماعات، وفيها صراعات واضحة صريحة من أجل المنصب والكرسي والتحصل على القوة، هنا تعال وابحث عن الناس الذين لم يتحركوا إلا من أجل تطلعات وأحلام وآمال، ستكون الصدمة لهؤلاء بأن الوضع الذي آلوا إليه أسوأ مما كانوا عليه، وأن الزمن السابق أقلها كانت الأمور تحمل ولو قدراً مقبولاً من التنظيم.هذا الكلام ينطبق حرفياً على العراق الذي وصل حال العراقيين اليوم للترحم على صدام حسين، رغم أنهم هم أنفسهم العراقيون، وغالبية منهم في وقت صدام كانوا يشكون من قوة النظام وصرامة إجراءاته ونفوذ العسكر فيه، وأن هناك قمعاً للحريات ومصادرة للحقوق، وأن الخطأ الاستراتيجي الأكبر في تاريخ صدام كان باحتلال الكويت، اليوم العراقيون يحنون لأيام صدام، لا حباً فيه، بل لأن وضعهم الحالي هو بالفعل أسوأ مما كانوا عليه في السابق، بلادهم فوضى عارمة، بلادهم مختطفة، بلادهم باتت ولاية إيرانية، خيراتهم نهبت، ومن يحكمهم يسرقهم، ومن يصرف أمورهم يظلمهم، تحول العراق لمكان ينبع منه الإرهاب، لأرض لا يمكن للناس أن تعيش فيها مثلما كانوا يفعلون سابقاً.حتى تونس مازال وضعها غير مستقر، مازالت الناس تتعب لأجل أن تعيد الوضع لما كان عليه، أقلها من ناحية تسيير الدولة المدنية بممارساتها، مازالت الدولة توحي لمن يزورها بأنها تمر بعملية إعادة تأهيل وإعادة تعمير، وكأنها خارجة من حرب أهلية. وبالحديث عن الحرب فإن ليبيا التي تفاخر فيها الثوار بقتل القذافي بصورة بشعة بدلاً من أن يقدموه لينال جزاءه في محاكمة عادلة، ليبيا يخيل لك وكأن فيها ألف قذافي وليس واحداً، وكل نسخة منه تحمل قنابل وتلقيها عرضاً وطولاً على عرض البلاد وطولها.اليمن أصبح هدفاً للأطماع الإيرانية وعملائها الحوثيين، ومصر التحديات فيها كبيرة جداً، والعمل فيها مضاعف لتعود كما كانت أقلها اجتماعياً.«الخريف العربي»، كل دولة دخلت في طوره لم تخرج منه منتصرة بشكل كامل، هذا إن كنا سنصف الانتصار بتغيير نظام لم يكن نافعاً بآخر أفضل، لكن الانتصار بالنسبة للشعوب يتمثل أولاً بأمن بلادها، باستقرارها المعيشي، بنظام اجتماعي سليم، وكل هذه الأمور مازالت بعيدة عن التحقق في تلك الدول.التغيير الذي يحصل في أي دولة، إن لم تكن له أساسات وطنية بالكامل، وإن لم يكن له اتجاه واضح وصريح، وإن ترك لتقوده جماعات لها أجندات خفية وأطماع تتفق مع أطماع جهات أجنبية، هنا تضيع الدول، وينجرف الناس ليرتكبوا أكبر خطأ استراتيجي، خطأ بتغيير كل ملامح الدولة في عملية قوامها الفوضى والتخبط وتغليب الأقوياء والتكتلات، والنتيجة بأن شكل الدولة السابق بإيجابيته لن يمكن حتى تعويض أقل القليل منه.الشعوب لا يمكنها أن تحكم نفسها بنفسها، وأعلم بأن هذا الكلام يناقض الشعارات الرنانة للديمقراطية وما تعنيه بأنها «حكم الشعب لنفسه»، إذ حتى مصدرة هذا الكلام لا تطبقه، وأعني الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يظن بأن الشعب الأمريكي هو من يحكم نفسه، هو حالم واهم تائه.مشكلتنا أننا لا نكتشف حجم الجريمة التي نقترفها بحق بلداننا إلا متأخراً جداً جداً جداً.
Opinion
جريمتنا بحق أوطاننا.. نكتشفها متأخراً!
01 سبتمبر 2016