لطالما كانت ورقة الدين من اختصاص بريطانيا التي راهنت عليها سنين طويلة، فهي ورقة رابحة في كل زمان ومكان، ومنذ سنين وأمريكا تلعب بالورقة نفسها لكن بطريقة تختلف قليلاً عن بريطانيا التي تحتوي الجماعات والأحزاب الدينية لتستخدمها لتحقيق مصالحها، أما أمريكا فذهبت أبعد من ذلك لأنها لا تأبه لاحتواء التيارات الدينية بقدر ما تعمل على صناعتها ليكون المنتج مطابقاً للمواصفات الأمريكية كما هو حالها في صناعة السيارات والأجهزة والمنتجات الأخرى، ولذا وظفت أمريكا مراكز بحوثها ودراساتها المتخصصة بالسياسة والشؤون الإسلامية فترة ليست بالقليلة لتعد لها نموذج الإسلام المتوافق مع المواصفات الأمريكية، وأطلقت عليه بعد ذلك «الإسلام المعتدل» والحقيقة هو الإسلام «المعدل» كما يفعل الأمريكيون مع سياراتهم عندما يضعون تعديلات عليها لتصبح بشكل أسرع أو أفضل من وجهة نظرهم.المهم في هذا الموضوع أن الطباخين في مراكز البحوث الذين أوكلت لهم مهمة طبخة «الإسلام المعتدل» لم يحذروا الغرب ويخوفوه إلا من السلفية، من ذلك عبارة روبن رايت التي لخص بها كتابه «هواجس أمريكا حول التطرف الإسلامي»: «لا تخافوا سائر الإسلاميين، خافوا السلفيين»، كما أن صفحات الانترنت ومكتبات مراكز الدراسات تزخر بمئات المقالات والمؤلفات في هذا الاتجاه.أكثر من ذلك فقد عمل هؤلاء على جعل تهمة الإرهاب التي ألصقوها بالإسلام «ماركة» للسلفية، وربطوا السلفية بأنظمة الحكم في دول الخليج العربي بشكل وآخر، معتبرين تنظيم الدولة «داعش» وقبله تنظيم «القاعدة» رمزاً للسلفية التي يخوفون منها، في حين لم يعد خافياً على أحد أن تنظيمي «القاعدة» و»داعش» صناعة استخباراتية محترفة، وإن كان بعض قادتها أو أتباعها ينتمون في بداياتهم للمدرسة السلفية فهذا لا يعني أن هذه التنظيمات من نتاج المدرسة، فالتطرف موجود في كل مكان ويمكن استغلاله لصناعة تنظيمات كـ «داعش» والقاعدة، وهنا أذكر كلاماً للدكتور عبد الله عزام رحمه الله، وهو قائد المجاهدين العرب في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وهو يتحدث في وقتها عن المجاهد وكأنه يستشرف المستقبل، فيقول: «أخطر إنسان هو المجاهد، لأنه بلحظة يتحول إلى قاطع طريق»، وبالفعل فهو شخص مدرب لا يهاب الموت إذا ما فقد الضوابط التي يعمل بها أو تخلى عنها فإنه من السهولة أن يتحول إلى مجرم، أما كيف صنعت التنظيمات الإرهابية فليس لأحد أن يجزم بطريقتها، لكنها إما جاءت بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال تهيئة الظروف لبنائها ثم توجيهها عن بعد أو بشكل مباشر، وعليه فمسألة ربط المنهج السلفي بأنظمة الحكم في الخليج أمر فيه إجحاف، لا سيما وأن هذه الأنظمة لا تعتمد الإيديولوجيات الإسلامية في عملها وإدارتها للحكم.وفي مقابل كل ذلك تتجاهل التقارير والدراسات إرهاب الميليشيات الصفوية وأحزاب إيران الدينية، ولا تحذر من خطورة التيار الديني الذي تنتسب إليه هذه الجماعات والذي يدعي الإسلام، بل تأتي التقارير لتتحدث عن مظلومية أتباعه.ويبدو أن روسيا تلعب هي الأخرى بورقة الدين بعد أن هيأت أمريكا لها الظروف، لذا رعت مؤتمر الشيشان الذي عبر عنه بأنه «نقطة تحول مهمة وضرورية لتصويب الانحراف الحاد والخطر، الذي اعترى مفهوم أهل السنة والجماعة» لننتظر بعد ذلك فصولاً جديدة من العداء الإسلامي - الإسلامي.