يتسم العمل في الأمم المتحدة بسمات خاصة منها التداخل بين الاستراتيجية والتكتيك، وهذا ما يبدو لغير الخبراء في التعامل الدولي على أنه خطأ جسيم أو تناقض في المواقف. ولكن التعمق في الأمور يظهر أنه موقف يرجح الجانب التكتيكي بهدف تحقيق نتائج استراتيجية لا يمكن الإعلان عنها مسبقاً ويترك تحليلها للخبراء والمتخصصين. ولقد جاء تصويت مصر في مجلس الأمن في هذا السياق وهو ما أحدث نوعاً من البلبلة لدى البعض، وتساءلوا عن أسباب التصويت المصري، وهل هو ضد الموقف السعودي. وفي تقديري أن الموقف المصري أملته الاعتبارات التالية، الأول، إدراك مصر أن طرح مشروعين يبدو بينهما التناقض من قبل دولتين هما روسيا وفرنسا لكل منهما حق «الفيتو»، ما يعني عملياً أنه لا يمكن أن يوافق المجلس علي أي من المشروعين. الثاني، أن كل من الموقفين المصري والسعودي خاصة والعربي عامة، هدفه حماية الشعب السوري. ولكن من الناحية العملية بما أنه لا يمكن إقرار أي من المشروعين، فإن مثل هذه الحماية لن تتحقق. والثالث أن الموقفين الروسي والأمريكي في جوهرهما موقف واحد أحدهما يعتمد القيادة من الخلف ولا يدعم المقاومة السورية كما ينبغي، بل أحياناً يتفق على أشياء عكس ذلك مع القوة الكبرى الأخرى. ولهذا هدد الروس أمريكا عندما انتقدت موقفهم بأن تعلن عن اتفاقهما الذي يعملان في ظله ولم تعلن أمريكا أي شيء للرد على الطلب الروسي. أما روسيا فهي في الأزمة السورية تقود من الأمام بل مصرة على استعادة بعض مواقعها التي خسرتها في الشرق الأوسط. في ظروف الهيمنة الأمريكية. الرابع، أن نظام الأسد في ظل التعاون الروسي الإيراني لن يتخل عن السلطة على الأقل في المرحلة القريبة والمعارضة لن تنجح لأن مؤيديها من القوى الكبري لا يدعمونها بقوة كما تدعم روسيا وإيران نظام الأسد. في ضوء ما سبق فإنه من الناحية الاستراتيجية لن تتحقق الإطاحة بنظام الأسد، وسيظل في الفلكين الروسي والإيراني، بينما سوريا - خاصة الثورة الإسلامية - لن تنجح لاعتبارات داخلية وإقليمية ودولية. فالقوي المعارضة متشرذمة ومتصارعة ويتعاون بعضها مع القوى الإرهابية وتعيش القوى الإسلامية في عالم مفترض لا يؤمن بالديمقراطية أو بالوطن أو العروبة.إذن من الناحية التكتيكية بالنسبة لمصر كعضو غير دائم في مجلس الأمن ليس هناك مبرر للانضمام لفريق خاسر ضد فريق خاسر لذا اتخذت موقفاً فريداً بالتصويت لمشروعي القرارين وهي تعلم أن أياً منهما لن يتم إقراره. هذا التصويت هو أقرب للامتناع الاحتجاجي. والضجة التي أثيرت حول التصويت لا تدرك فلسفة المواقف فلو افترضنا أن مصر صوتت فقط لمصلحة مشروع القرار الغربي ضد الروسي ونتائجهما محسومة بالفيتو فلن يكن صائباً ولذا اتسم الموقف المصري بنوع من الذكاء التكتيكي لتأكيد هدف استراتيجي وهو أن مصر مع وحدة سوريا وحماية الشعب السوري وليس مع نظام الأسد القاتل لشعبه ولا مع الجماعات الإسلامية التي شوهت صورة الإسلام الحنيف. النظرة الاستراتيجية المصرية والسعودية واحدة والاختلاف بينهما في التكتيك. وينبغي أن نذكر أن مصر لا تتاجر بقضايا أمتها العربية أو الإسلامية كما تفعل دول أخرى وهدفها حماية الأمن القومي ومهما يكن نظام الأسد فلن يستمر طويلاً فهو ضد مسيرة التاريخ وضد إرادة الشعب السوري رغم ما يشوبه من شكوك في هذه اللحظة.ورد الفعل السعودي في مجلس الأمن من واقع التلميح من المندوب السعودي الدائم كان أكثر حكمة لأنه يعرف التكتيكات في المنظمة الدولية بينما بعض رجال الإعلام وبعض السياسيين سواء من الجانب المصري أو السعودي لا يعرفون ذلك. وتصادف إرسال شركة «أرامكو» رسالة لشركة البترول المصرية تبلغها أنها لن تستطيع توريد الشحنة المتفق عليها في أكتوبر، وتلازم هذا الموقف زمنياً مع التصويت في مجلس الأمن. وبدا كما لو كان رد فعل سعودي على الموقف المصري. وكمتابع للإحداث أعتقد بخطأ النتائج التي توصل إليها بعض المحللين. ففي تقديري أن موقف شركة «أرامكو» ربما مرجعه اعتبارات إدارية وليست سياسية أو تجارية. فالقرار السياسي تعلنه السلطة السياسية ولم تعلن السلطات السعودية أي موقف. أما إذا كان قراراً تجارياً فالصفقات بين الشركات تحكمها قواعد دولية ومن لا ينفذ شروط التعاقد من الطرفين يمكن أن يتعرض للمساءلة ولذا فالمرجح أنه قرار إداري.مصر أخذت الموقف برمته مأخذاً عقلانياً وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي الموقف الاستراتيجي المصري في أمرين أن العلاقات المصرية السعودية علاقة قوية ومتينة وأن موقف مصر من أمن الخليج العربي هو موقف قومي ومصر لا تتخلي عن مبادئها نتيجة أية اعتبارات طارئة.السعودية لزمت الصمت فهي لا تعلق على كتابات صحافية وهذا يعني أنه ليس لديها أية شكوك في الموقف المصري الاستراتيجي، وربما لا تتفق مع الموقف التكتيكي، وهذا في ذاته ليس أمراً جديداً فكثير من المواقف التكتيكية بين الدول، ليس بالضرورة الاتفاق بشأنها، فالتكتيك تديره كل دولة بطريقتها والمهم هو الموقف الاستراتيجي، وأتمنى أن يتريث بعض السياسيين والكتاب والصحافيين في مواقفهم قبل بث الشكوك وافتعال الخلافات والأزمات. * المندوب المناوب لمصر في الأمم المتحدة سابقاً