فيما كانت واشنطن تتهرب من القيام بأدوارها التي بنت عليها مجدها مع منظومة دول الخليج، ومنظومة حلف شمال الأطلسي، واليابان وكوريا الجنوبية، فيما كانت تفعل ذلك، وصل دونالد ترامب للبيت الأبيض، رغم أنه يحمل فهماً ملتوياً للقيم الأمريكية، كرفع راية الانكفاء الأمريكي للداخل، وإطلاق تصريحات جريئة ضد المسلمين والمهاجرين. كما زاد من كآبة المشهد الأمريكي أن نجاحه جاء من دعم الطبقة العاملة، لاسيما ممن لا يملكون شهادات، حيث سحرهم بصموده كمصارع فظ، ونمى شعور الجميع بالنفور منه، بل وأدخل علاقات أمريكا الخارجية في إطار تحليلات مادية مفعمة حتى الثمالة بنزعة الجشع الرأسمالي.وبعد إعلان فوز ترامب خرج مواطنو كاليفورنيا للشارع، وتصاعدت الدعوات إلى الانفصال عن الولايات المتحدة، فالولاية بسادس اقتصاد في العالم تمتلك ما يؤهلها لتصبح دولة مستقلة. فهل ترامب هو «غورباتشوف»الذي سيفكك أمريكا؟ وكم سيستغرق ذلك؟ لم يستغرق، إذا تذكرنا أن خروج الإمبراطورية البريطانية من الخليج معلناً نهاية الإمبراطورية لم يستغرق إلا سنتين بعد إعلان «سياسة شرق السويس»، كما لم تتعد «بروستوريكا» جورباتشوف لتفكيك الاتحاد السوفيتي أكثر من ذلك. ويذهب المفكر «إيمانويل تود Emmanuel Todd» في كتابه «ما بعد الإمبراطورية - After the Empire» الصادر في 2003، إلى أن واشنطن لجأت لبعض التكتيكات الذكية للبقاء قوةً رئيسة، بممارسة أدوار مزيفة لإقناعنا بضرورة بقائها بالصدارة، كرعاية الديمقراطية، وكراعية لمحاربة الإرهاب. لكن ذلك لا يثبت عجزها فحسب بل صار ما تقدمه محصوراً في إثارة الحروب والقلاقل. وعند استنفاد هذين الدورين سيكون لدى العالم حصانة ضد الأدوار المزيفة الجديدة.نكاد نجزم أن دونالد ترامب معول هدم كبير «Sledgehammer» سيقوض أمريكا. صحيح أن انهيار بعض الإمبراطوريات القديمة حدث حينما انقضّ عليها نظام أكثر تطوراً منها اقتصادياً، وصحيح أنه لم يظهر حتى الآن نظام اقتصادي أقوى من اقتصادها، لكن حضارات أخرى انهارت بسبب قوة الاقتصاد نفسه لتركز الثروة في يد نخبة قليلة أعماها الفساد وعدم الكفاءة عن حسن إدارة البلاد، فغافلها المصير الأسود على حين غرة.* بالعجمي الفصيح:لن تنهار أمريكا جراء انقضاض إمبراطورية أخرى أكثر قوة اقتصادية، بل ستنقض عليها الشركات متعددة الجنسيات الضخمة التي اجتاحت العالم الثالث، والتي يديرها ترامب ومن مثله، وسيفعل مثل «غورباتشوف» مصداقاً للحقيقة المذهلة في قوله تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً»، «سورة الإسراء: 16، 17».