كتب – جعفر الديري: من بعد مجموعته القصصية (أنثى لا تحب المطر) أحس الروائي البحريني أحمد المؤذن بكائن آخر يتخلّق في وعيه، ينبئوه أن القصة القصيرة ليست السقف الأول والأخير في مسيرة الكتابة، فكانت روايته البكر (وقت للخراب القادم) مزيج عربي قابل للتوسع والتأويل، يختزن في داخله تفاعلات مجتمعية سياسية بيئية أخلاقية وخرافية. المؤذن الذي أتقن في روايته بناء الصورة، يؤكد في هذا اللقاء مع «الوطن» أنه يجد في الصورة مجالاً يختزل بداخله حياة يسري فيها النبض والدم، يهبه هيمنة أبوية على مجريات الأحداث، مقدراً اشتغال الروائيين البحرينيين من جيله الذين يجتهدون ويحتاجون لمن يؤمن برسالتهم. في هذا اللقاء يقف المؤذن بنا على تخوم قضايا كثيرة، بعضها ذو صبغة أدبية وأخرى إنسانية، فإلى هذا اللقاء... * روايتك البكر «وقت للخراب القادم»، هل كتبتها بوعي محدداً ما تريده بالضبط؟ أم أنها أملت عليك ما تعلمته من صيغ أسلوبية أو بلاغية؟ - من بعد ( أنثى لا تحب المطر) أحسست بكائن آخر يتخلق في وعيي، هكذا بدأ حلم الرواية يستيقظ في هواجسي ويكبر ، آمنت أن القصة القصيرة ليست هي السقف الأول والأخير في مسيرة الكتابة ، لذا بدأت بوضع أولى اللبنات في مشروعي الروائي، أثبت بصري نحو أفقٍ أوسع مع كتابة الرواية . فالمؤذن وهو يقدم مجهوده الأدبي ضمن الساحة الثقافية العربية في إطارها الأوسع ، لا يمكن أن يغامر بخسارة قرائه ليكتب تلك الصيغ الأسلوبية البلاغية التي تحشو النص وتطغى على المضمون والوعي ، وقت للخراب القادم، تختزن في داخلها تفاعلات مجتمعية سياسية بيئية أخلاقية وخرافية تشكل مزيجاً عربياً قابلاً للتوسع في فضاء التأويل والتلقي، هذا ما كتب عن الرواية في صنعاء وعمان والقاهرة، فإن كانت صحافتنا المحلية هنا لا ترصد المشهد الروائي بالفعالية الكافية وتستنطق تفاعلاته وتقرأ رسائله، فهذا التقصير يعود عليها بالسلب وهي المعنية به.اجتهادات لا تهدأ * كيف يقرأ المؤذن مشروعه الروائي ومشاريع الروائيين من جيله؟ هل يجده مهماً؟ هل تمكن من أن يحفر مجرى خاصاً به؟- لا أشذ عن بقية جيلي من الروائيين الشباب في البحرين، بأنني أحاول جاهداً في ترك بصمتي الخاصة على صعيد القصة القصيرة أو الرواية على حدٍ سواء، وكما أشرت آنفاً في إجابة السؤال السابق أعلاه، العديد من الأقلام النقدية العربية تفاعلت مع ( وقت للخراب القادم ) وأبرزت جوانبها الإيجابية كتجربة روائية تمثل المشهد الثقافي في الخليج العربي. بالنسبة لي الروائيين الشباب من جيلي عبد العزيز الموسوي – فتحية ناصر – رسول درويش وأسماء أخرى أقدر مجهودها لا تحضرني أسماؤها، كلها ضمن الساحة تجتهد في عناء التجربة وتريد وضع الرواية البحرينية في مقدمة الصادرات الثقافية، لكن تحتاج لمن يؤمن برسالتها ويدعمها، كجهات ثقافية ومثقفين وقراء .* وأنت كروائي، هل تؤمن بضرورة عودة المثقف البحريني إلى الاضطلاع بأدواره الطلائعية؟ هل يمكنه ذلك مع التهميش الذي يتعرض له؟! كيف يمكنه ذلك؟ - الدور الثقافي للمثقف البحريني اليوم لا يحتمل مثل هذه التسميات الدسمة كالتي تقولها ( الطلائعية ) لكون تجربة المثقف عندنا في الساحة مشبعة بالتأزم الداخلي، فليس لدينا مثقف ليبرالي يحترم ليبراليته أو وطني يثبت على مبادئه، هناك نماذج مثقفة خانت رسالتها الثقافية، فكيف نتحدث هنا عن أي توجه ( طلائعي – طليعي ) يمكن أن نعول عليه في حراك المجتمع . كما بقية العالم العربي، المثقف إما أن يكون سلطوياً أو مع الجماهير أو .. يعيش في صمت مؤثراً السلامة فيموت بصمت بدون أيما دور حياتي يذكر!. ثم هل نحن بالفعل كمثقفين قادرين على قيادة حالة ( طلائعية ) في البلد وسط هذه الظروف ؟! ما عاد أحد يلتفت إلى الخطاب الثقافي ولا حراكه بعد الأحداث السياسية التي مررنا ولانزال في نفقها، لا ندري إلى أين نصل ؟ وها هي الرؤية أمامنا ضبابية، مع احترامي .. المثقف البحريني الجاد مخصي الفعل بالساحة، أي حالة طلائعية تتحدث عنها في هذا السياق فقد أخذت رايتها الحالة السياسية المتردية وهي التي تقود ردات الفعل من جميع الأطراف، بدأت أؤمن أن الخراب سيكتسحنا جميعاً!!. الرسم والنحت * التصوير بالأحرف والكلمات على الورق المطبوع، متعة لا يشعر بها إلا من مارسها، سؤالي: هل كانت الحروف والكلمات خيارك، أم أنك عنيت بها لأنك لم تتمكن من التعامل مع أدوات التعبير الأخرى؟ - أمارس من وقت لآخر بعض الرسم والنحت، لا أتحدث لأحد حول هذه الهوايات وأبقيها طي الكتمان، كما أصنع الدمى والخط العربي، هكذا أعيش بعض الحالات الخاصة من التجلي حينما أجد أن الطاقة التعبيرية التي تعتمل بداخلي، تريد الإفصاح عن ذاتها على شكل لوحة أو عمل نحتي، أقول من خلاله ما أريد. عندك مجموعة رجل للبيع ، اللوحة الرئيسة للكتاب هي من ضمن أعمالي الفنية المتواضعة . إلى اليوم ماأزال محتفظاً بدفاتر رسوماتي، إلى جانب تلك الدفاتر التي كنت أكتب فيها قصصي وخواطري وأشعاري .* هل تؤمن بقدرة العمل الروائي على إعادة الحياة إلى المألوف؟ - حسناً .. لست ميالاً كثيراً لاقتباس مقولات كبار الكتاب كيما أصف شعوري وأجيب السؤال بشكل منمق جرياً على عادة الكتاب، ببساطة .. الرواية حياة على الورق تهبك عذريتها، هي عاصمة من الدفء والحب تجعلك تعيش أعمار وتجارب من سبقوك. القارئ حينما يختار الرواية في شكلها الورقي أو الإلكتروني، يبحث لنفسه عن عزاء حتى يتجلبب ويقي نفسه من تكاثر الحزن في عالمنا المعاصر، أمامك فضائيات تبث الكراهية وأفلام رعب يومية، تطرف وظلام وخراب، بشر تموت بشكل مجاني .. إلخ من صور مشوشة تغزو نفوسنا بتدفق هائل موتر للأعصاب، لذلك أنصح المواطن العربي بقراءة الرواية ليرتب سرير راحته الداخلية فيهدأ.هيمنة أبوية * قصص المؤذن تعنى كثيراً ببناء الصورة، وفي روايته أيضاً، حرص على ذلك، لماذا؟ - مجال الصورة بالنسبة لي يختزل بداخله حياة يسري فيها النبض والدم، بالنسبة لي شخصياً، أهتم بالتفاصيل وأعتبرها شيئاً مثل كواليس المسرح، حيث هناك مشهد بانورامي آخر لا يستمتع به إلا المخرج، هكذا أستمتع بالكتابة في القصة القصيرة أو الرواية، بناء الصورة يعطيني تلك الهيمنة الأبوية على مجريات الأحداث، فالكاتب منا ينتشي بحالة الخلق ( يتأله ) في مملكته وعنده رعايا يثيبهم بالجنة ويعاقبهم بالنار، فيمضي في ما وراء التفاصيل، يضيء الصورة للمتلقي ليترك بصمة أنيقة وخاصة.* كان الأديب العالمي تشيكوف لا يكتم انزعاجه من النقاد! لكنه لم يكن يمارس النقد! بينما المؤذن يكتب أدباً ويمارس النقد، هل يحاول المؤذن أن يعزز نظرية بعينها، أم أنه ينصاع ببساطة لنظريات جاهزة؟ - لا أتبنى شيء مما طرحته في سؤالك، بكل تواضع .. المؤذن حينما يتناول بعض الإصدارات المحلية أو العربية يتعرض لها كقارئ متذوق، لست أدعي الاشتغال بالنقد، أكتب بشكل انطباعي وأعكس رؤيتي الذوقية الثقافية فيما أقرأ لا أكثر. ثم أن النظريات النقدية التي يؤسس عليها الخطاب النقدي العربي في رأيي باتت مستهلكة، فنحن استوردناها من ثقافة الآخر ولم نضف إليها جديداً، الثقافة العربية لم تطور نظرية نقدية أدبية من داخل بيئتها حسب علمي، الحاصل أننا نستمر في اجترار المكرر والجاهز بما لا يواكب التيارات الثقافية الجديدة ومعطياتها على الساحة، هذا قصور كبير في الأداء يتحمل مسؤوليته المشتغلون بالنقد على المستوى الأكاديمي .وجه مكمل للحياة * لفت نظري جداً في رواية «وقت للخراب القادم» محاولة المؤذن الجمع بين الرومانسية والتخييل المفتوح، بين أحداث تقوم على الأرض، وبين رؤية قائمة على المنام، كيف استطاع المؤذن أن يزاوج بين الواقعي والخيالي؟ - حسب فهمي لسؤالك أقول : المزاوجة بين الواقعي والخيالي .. الأمر ها هنا أنني أتمسك بالوجه الآخر لعنصر الخيال، أعتبره مكملاً أصيلاً للشق الثاني من الحياة، الإنسان العادي في حياته اليومية يمارس في لاوعيه تلك المزاوجة بين الواقعي والخيالي، فيستعين بالأفلام ويتقمص شخصية بطل الفيلم ويخرج من واقعه الفعلي ثم يعود إلى مسرح الحياة، يخلع عنه ملابسه الديكورية ليرجع مثل أي مواطن عادي يمشي بالشارع، الناس العاديون يبحثون عن هذه الروح الرومانسية حتى يتغلبوا على صرامة الواقع وجفافه وجديته، فأعتقد أنني أوفر المسرح المناسب في روايتي (وقت للخراب القادم) لكي تتنفس القراء هواء آخر ، فرغم كوارث الواقع العربي الراهن لابد من مساحة أرحب للحلم والأمل.