د. عادل محمد عايش الأسطلولما كان لدى السيناتور "جون كيري" خلفية لا بأس بها عن القضية الأطول والأعقد، في التاريخ الحديث على الأقل، وهي القضية الفلسطينية، ولديه فكرة عن معظم ملفاتها واتجاهات مساراتها، بدءاً من المواقف والتصريحات السياسية الصادرة من أطراف القضية، ومروراً بالأحداث والتطورات الأمنية، ووصولاً إلى التفاهمات والمعاهدات التي تم التوصل إليها خلال السنوات العشرون الماضية، وانتهاءً بالتباينات والخلافات الشديدة الحاصلة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وخاصة المتعلّقة بالقضايا الجوهرية والنهائية. فقد سعى - للإفادة أكثر - منذ لحظة تعيينه من قِبل الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" لتولى منصب وزارة الخارجية، وتكليفه رسمياً برعاية المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، من أجل السعي للتوصّل إلى حلول، إلى الاعتكاف داخل وزارة الخارجية وبين دواليبها ورفوفها، يُقلب ملفاتها واحداً تلو الآخر، ويتفكّر كل شاردة وواردة، ويدرس كل صغيرة وكبيرة، من وثائق وتقارير، ومبادرات واقتراحات، وقصاصات أخرى.وكان يستدعي بين الفينة والأخرى وزراء خارجية سابقين، أعيتهم القضية الفلسطينية وباتوا يستعينون برجلٍ ثالثة للذهاب إلى الحمّام بعد امتعاضٍ وتمنّع. ومنهم "جورج شولتز، كولن باول، هيلاري كلينتون" للإفادة أين أصابوا وأخطأوا في شأن متابعتهم للقضية الفلسطينية، بالرغم من أنه لا إصابات بعد. وللاستزادة في علم الدبلوماسية ما يتعلق بها، فقد سعى إلى الالتقاء بوزراء خارجية آخرين تابعين لدول أخرى، وكانت لديهم تجارب مشابهة ونجحوا في حلّها أو أجزاء منها. لم يُسعفه في شيء - في شأن القضية الفلسطينية- كل ما قام به وسعى إليه حتى اللحظة، برغم وضوح نشاطه الزائد، بقيامه بزيارة المنطقة أكثر من عشر مرّات متواترة، بعضها وراء بعض. وعلى الرغم أيضاً من تنوّع أوقاتها واختلاف طُرقِها، فسقط ليلاً من الجو، ودلف نهاراً من البر، وانزلق فجراً من البحر، وكان في كل مرّة يرجع بخفي حنين، ولكنه في ذات الوقت يلجأ إلى تعزية نفسه من جهة، وإيجاد مبررٍ من جهةٍ أخرى، كونه يُجاهد بين رجلين اثنين – شديدين- غير مؤهلين للتوصّل إلى حلول لتوقيع اتفاق. الأول رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" والثاني هو الرئيس الفلسطيني "أبومازن".حيث أن الأول مصاب بداء الاحتلال والاستيطان وليس له براء منه، وبالمقابل يدّعي بالصراخ طوال الوقت بأن الولايات المتحدة تركته وحيداً أمام أعداء قُساة، وأن "أوباما" نفسه ليس في رأسه سوى إطعام إسرائيل لهم. لا سيما حين عُرض أمام عينيه التصور الأميركي للترتيبات الأمنية المستقبلية، التي رفضها الفلسطينيون من الأصل قبل أن يتم طرحها على الطاولة، والمتعلقة بالتواجد العسكري الإسرائيلي في منطقة الأغوار والتي تمثل حوالي 6% من مساحة الضفة الغربية.والثاني، الذي لم تكتمل فيه أركان القادر على تنفيذ ما يقوله بلسانه ويُريده قلبه، حيث أنه لا يُمثّل الكل الفلسطيني، ولا يسيطر على كل الأرض، وحدود سلطته منتهية منذ زمن. وفي نفس الوقت يداوم على وصفه بأن الإدارة الأميركية بمقترحاتها وخاصة في المجال الأمني تتبنى المطالب الإسرائيلية بالكامل، وأن هذا ينسحب على موقفها من بقية قضايا المفاوضات. لكن، وبالرغم من الفشل الذي واجهه "كيري" من خلال عدم قبول أيٍ من الطرفين جميع أو بعض مقترحاته التي تقدم بها علاوةً على أنها لا تحظى بقبول لدى جهات وأحزاب لدى الجانبين، وبالإضافة إلى كل التأنيب الذي سمعه من الإسرائيليين مباشرةً، وخاصةً من زعيم حزب إسرائيل بيتنا "أفيغدور ليبرمان" الذي أفرط في تعنيفه وأصرّ على وضع إعلاناته المتفائلة - باختصار- تحت الجزمة، وإلى جانب الملاحظات المحبطة التي تلقاها من الخبراء والسياسيين في مشارق الأرض ومغاربها، والتي تمس مصير جهوده بالكليّة، لم يصل بعد، إلى الدرجة التي هي النقطة النهائية لإعلان التلويح لطلب النجدة وإنقاذه من بحر التّيه الدبلوماسي أو التسليم على الأقل. على الرغم من كل ذلك، رأى أن يواصل مسيرته وإن كان تحت بند (لعل وعسى) وذلك بالاعتماد على إدراج خيار – مهم- وهو رفع مؤشر الضغط بدرجة أو درجتين والمتعلّق بمسألة الترغيب والترهيب، وإن كان ضمن الحدود المسموح بها من قِبل الجماعات اليهودية المتنفّذة وخاصةً تلك المتواجدة في الولايات المتحدة. إصرار "كيري" في مواصلة جهوده لم يجئ هكذا، بل جاء في هذه المرة، على قواعد وأسس مختلفة عن السابق، والتي تمثّلت في الاستغناء عن حكاية الذهاب والإياب للمنطقة، والتخلّي عن اعتماد ركوب وسائل النقل على اختلافها، واستبدال ذلك كله بالإقامة في المكان وإلى حين ميسرة. حيث أوعز لوزارته القيام بحجز واستئجار 50 غرفة في أحد فنادق مدينة القدس المحتلّة، ابتداءً من منتصف يناير/كانون ثاني المقبل. بسبب الحاجة إلى استيعاب عدداً كبيراً من طاقم المفاوضات المضخّم، والذي يضم قرابة 130 شخصاً هم من ذوي الخبرة والمراس الدبلوماسي والتفاوضي، بهدف تنشيط العملية التفاوضية، وللإيحاء لكلٍ من "نتانياهو" و"أبومازن" من أنه حان الوقت للاقتراب من مرحلة الحسم. في ضوء ذلك التطور، رأى بعض الإسرائيليين أن العاصفة الثلجية التي ضربت إسرائيل والأراضي الفلسطينية، ستكون بمثابة لعبة أطفال بالمقارنة بالعاصفة السياسية الدولية التي يعمل "كيري" على إعدادها حالياً والتي ستتوضح أكثر في الفترات اللاحقة، وأن على "نتانياهو" الاستعداد جيّداً (للبهدلة). بسبب أن "كيري" عازمٌ على تحقيق إنجازٍ ما، ولو عن طريق الكذب دون أن يضطر للإعلان عن فشل المفاوضات أو فشله في رعايتها. ولكن هؤلاء لم يلجأوا إلى إبداء رأيهم أو توقعهم بشأن ما يمكن أن يتعرض له "أبومازن" من ضغوطات مشابهة أو أكثر. حيث أن الحلول الوسطية دائماً لا تُرضي الطرفين وفي كل حال، خاصةً في شأن القضية الفلسطينية، ويترتب على أي مقترح أمريكي من هذا القبيل، أن يتعيّن على "أبومازن" الاستعداد أكثر لذلك الضغط والتوقّع بشدّة، مسألة تحميله مسؤولية فشل المفاوضات عِوضاً عن إسرائيل التي يُشار إليها منذ الآن باحتمال تحميلها مسؤولية الفشل المتوقع الحصول عليه. حيث أن الفلسطينيون لا يستبعدون حدوث ذلك، بسبب أن المقترحات التي يعُجّ بها "كيري" لن تكون عادلة، وربما هم مستعدّون لتلقي ذلك الفشل وبروح رياضيّة أيضاً. ربما وبعد كل ما سبق، فإن من الصعب ومن غير المقبول أيضاً أن يتوقع أحد من الفلسطينيين أن تكون هناك موافقة رئيسية أو ثانوية على المقترحات الأمريكية التي يقودها "كيري" سواء كانت بطريق الزيارات أو عن طريق الإقامة لمدةً عام أو أكثر، بسبب علمهِ المسبق من خلال دراساته الفائتة، بأن هناك استحالة بشأن قبول أيّة اتفاقية أو مرجعية لا تعترف بالحقوق الفلسطينية كاملة غير منقوصة، مع استبعاد مسألة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، لا سيما في ضوء أن هذه المواقف جرى التأكيد عليها طوال الوقت وفي كل مناسبة.خانيونس/فلسطين21/12/2013