.. وانتهت قمة بغداد العربية بالحضور الذي لاحظه من رغب في التعرف على حجم التمثيل فيها، وعدّ مراقبو القمم العربية التمثيل فيها متواضعاً، على حين أن الحكومة العراقية حولت عدساتها وعدسات المراقبين من قصر الفاو الرئاسي القريب من مطار بغداد الدولي، والذي عقد فيه من حضر من الرؤساء أو من جاء نيابة عنهم قمتهم الثالثة والعشرين، حولتها بقصد مفهوم، إلى القصر الجمهوري في كرادة مريم وسط المنطقة الخضراء، إذ عقد وزراء الخارجية اجتماعهم وأقرّوا إعلان بغداد الذي صدر باسم القمة، وقيل إن اجتماعهم سجل أعلى حضور لرؤساء الدبلوماسية العرب على مدار السنين، هذه عملية تضليلية مقصودة تتواصل في بغداد منذ 2003م، كما يمكن للمراقب أن يسمع لحن القول في إعلان القمة الذي أقحم على اسم بغداد. الذين تحدثوا عن اجتماعات بغداد أغفلوا جانباً مهماً في مسألة المشاركة في القمة أو في الاجتماعين الوزاريين اللذين سبقا القمة، وهو أن الدول العربية المحورية والتي تلعب دوراً معلوماً على المستويين الإقليمي والدولي، من دون استثناء لم تشارك في القمة، بحيث بدت الصورة وكأنها مستلة من مخلفات العصور الغابرة، أو مستوردة من جمهوريات الموز، فلا المملكة العربية السعودية ولا مصر ولا الجزائر، أسهمت في القمة، ثم أن المملكة المغربية التي كان لها حضورها البارز في الإعداد للقمم العربية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي غابت عنها أيضاً وهذا ما أدى بالتأكيد إلى إضعاف الحضور، وحتى العراق ومع أن الرئيس العراقي جلال الطالباني هو الذي ترأس المؤتمر، ومع أن نوري المالكي هو الذي ترأس وفد الحكومة العراقية إلى القمة، وعلى الرغم من أن المؤتمر الصحافي الذي عقد في اختتام جلسة القمة أداره وزير الخارجية هوشيار زيباري مع نبيل العربي أمين الجامعة العربية، على الرغم من كل ذلك أقول وأسجل بعنوان كبير، إن العراق كان أكبر الغائبين عن القمة التي عقدت فوق أرضه حتى وإن حضرها برموز سلطته كلها، أو استمات من أجل عقدها، لغياب العراق عن الدور التاريخي والمحوري، العراق العربي الفاعل في المشروع العربي الذي غاب مع غياب العراق عن الساحة منذ 2003م، فكان لا بد من إعادة النظر عربياً بأهداف المشروع العربي الجديد فضلاً عن آلياته، العراق غاب بقلبه وعقله ووجهه العربي عن قمة سجلت باسمه من دون وجه حق وليكون شاهداً على تزوير هويته وتغييب دوره العربي وتسليم رايته، ولو إلى حين، إلى قوى دخيلة عليه تحمل همّاً لمشروع خارجي لا يريد للعراق الوقوف على قدميه، أو استعادة عافيته، مع أننا لا نريد التوقف عند رئاسة مسؤولين أكراد لمؤتمرات القمة كلها، القمة نفسها ومؤتمر وزراء الخارجية، ومؤتمر وزراء الاقتصاد. إن بلداً مازال يشكّل الخاصرة الرخوة في النظام الرسمي العربي منذ احتلاله 2003 م وحتى اليوم، ويعيش صراعات متعددة المحاور والعناوين، وأخفق في حلّ أصغر الأزمات التي مرت على أرضه أو فوق سمائه، لا يمكن أن يكون قادراً على حل مشكلات غيره، أو قيادة العمل العربي المشترك، الذي لن يتمكن من الاضطلاع به إلا إذا كان بلداً قوياً متماسكاً، يتحدث بلغة واحدة يفهما المتلقي من دون لبس أو غموض، فبالإضافة إلى الرفض الشعبي لاستضافة القمة فإن التحالف الوطني الحاكم والموالي لإيران لوحده هو الذي حمل لواء الدعوة إلى عقد القمة، معتبراً ذلك تحدياً مصيرياً للاستمرار أو الخروج ليس من الساحة السياسية، بل الخروج من العراق والعودة إلى البلدان التي يحمل أعضاؤه جنسيتها. من يعجز عن حل مشاكله الداخلية ليس على مستوى البلد الذي يحكمه بل على مستوى العملية السياسية التي يقودها، لا يصلح لقيادة دول قطعت أشواطاً بعيدة في تراكم خبرة العمل المؤسسي، وإقامة منظومة الدولة الحديثة، على حين انشغل قادة العراق الجدد بصراعات وتصفية حسابات وفتحوا أبواب العراق على حروب بالعناوين كلها، فأرجعه زعماؤه الحاليون قروناً عديدة إلى الوراء، لا يمكن أن يقنع أحداً بجدارته بقيادة العمل العربي المشترك، وقد قيل قديماً: فاقد الشيء لا يعطيه. حصاد سنوات الاحتلال نعم، استضاف عراق ما بعد احتلال 2003 القمة العربية، وأنفق أموالاً طائلة على ترتيباتها، ولكنه لن يتمكن من قيادة العمل العربي المشترك لسنة ستكون الأطول في تاريخ القمم العربية، وذلك لعاملين، أولهما أنه لا يؤمن أصلاً بالعمل العربي على أي مستوى، فعراق اليوم هو نتاج احتلال أمريكي غبي سلم ملفاته لاحتلال إيراني أحمق، فهل يعمل الأمريكيون والإيرانيون ضد أنفسهم أو ضد مشاريعهم ومصالحهم؟ ذلك أن العمل العربي المشترك في واحد من أهم دواعيه وأهدافه، يسعى إلى ترصين الموقف العربي والارتقاء به ومنع التدخلات الخارجية، وخاصة الإيرانية إقليمياً والأمريكية دولياً، والثاني أنه سيسفر عن وجه غير عربي مما يؤدي حتماً إلى التصادم مع المؤمنين بالعمل العربي المشترك. من اللافت أن كلاً من الولايات المتحدة وإيران مارستا أقصى ما تمتلكان من قوة تأثير ونفوذ لعقد القمة العربية الثالثة والعشرين في بغداد بالذات، ولزوماً في الوقت المحدد، وعلى الرغم من أن ظاهر العلاقات بينهما يشي بكثير من الاختلافات أو الخلافات، إلا إن الساحة العراقية على ما يبدو هي ساحة الخلوة الشرعية المثلى لقضاء شهر عسل أمريكي إيراني فيها، مع أن الوضع الأمني يمكن أن ينهي في كل لحظة زمن الصفاء والمتعة البريئة التي ينشدها الطرفان على مقربة من الكواتم والمفخخات وهدير الآليات العسكرية. جيلنا يذكر أن مؤتمرات القمة العربية كانت هاجساً مخيفاً لأمريكا وإيران وإسرائيل بدرجات متساوية، فلم يعقد مؤتمر قمة إلا وكان الوقوف بوجه الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الإيراني لكثير من الأراضي العربية، وآخرها جزر الإمارات العربية الثلاث، موضوعات حاضرة بقوة في البيانات الختامية أو في المناقشات، فكانت هذه الأطراف تضع ما تستطيع من العراقيل لمنع انعقادها أو منع خروجها بقرارات تخدم العمل العربي المشترك، ولكن الظروف تبدلت ودخل البيت الأبيض وغادره رؤساء كثيرون، فصار ممكناً بعد اللقاء الغامض بين طهران وواشنطن على منصة رئاسة قمة بغداد، أن تطوى ملفات كثيرة وأن تتحول قضية مضيق هرمز والحديث عن إغلاقه إلى جمرة تم إلقاؤها في مياه الخليج بصفقة واحدة، فخمدت ولم يعد بمقدور أحد سماع حسيسها. فلماذا تبدلت المواقف على هذا النحو الدراماتيكي؟ وما هي دوافع كل من واشنطن وطهران لتمارسا هذا القدر غير المسبوق من الضغط والترغيب والترهيب لضمان عقد القمة في بغداد؟ أقامت الولايات المتحدة الأمريكية في العراق تجربة حكم فاشلة بجميع المقاييس الدولية المعتمدة عالمياً، فبعد تسع سنوات من الاحتلال الذي خلّف مليوني قتيل ومليون أرملة وخمسة ملايين يتيم ومثل هذا الرقم من المشردين والمهجرين داخل العراق وخارجه، مازال العراقيون مهددين بحياتهم وممتلكاتهم نتيجة الشطر الأفقي والعمودي للمجتمع والفرز الطائفي والعرقي الذي اعتمدته سلطة الاحتلال، سواء بإصدار قانون إدارة الدولة المؤقت أم دستور 2005 الذي نسج على منوال شقيقه السالف، ولم يتقدم العراق تحت سلطة حكومة المالكي الثانية خطوة واحدة على طريق الشعارات التي رفعتها عالياً بلافتات كبيرة وصوت مرتفع، كالديمقراطية والمصالحة الوطنية وإشاعة مبدأ المساواة أمام القانون، وازدادت نسبة البطالة لتصل إلى نحو نصف عدد الأشخاص الداخلين إلى سوق العمل، وتردت خدمات التعليم والصحة والخدمات العامة مثل الكهرباء والماء الصالح للاستخدامات البشرية، في بلد كان يطلق عليه ذات يوم اسم بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين، وتدهور الإنتاج الزراعي والصناعي على نحو مفزع، وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر في بلد قالت عنه منظمات الشفافية «إنه يتربع فوق عرش الفساد في العالم بجدارة»، ولأن فشل أمريكا في العراق كان بحجم الفشل الذي أصاب التجربة التي زعمت أنها ستكون التجربة الجاذبة للأنظار من شعوب المنطقة والقادرة على أن تشع بإيجابياتها على دول الشرق الأوسط. لذا كان لازماً أن تضغط واشنطن برصيدها وثقلها السياسي والاقتصادي وحتى العسكري كله لضمان عقد القمة في بغداد، لتقول إنها تركت بلداً مستقراً وفي طريقه إلى الازدهار الاقتصادي، وإنها نجحت بإقامة أنظف تجربة ديمقراطية، على الرغم من أن واشنطن تعي جيداً أن البلد يسير بأقصى سرعة نحو دكتاتورية طائفية وحزبية وشخصية، وأن البرلمان معطل عن أداء دوره، وأن السلطة القضائية مكفوفة اليد واللسان والأذن عن أي دور يمكن أن يلجم السلطة التنفيذية عن غلوائها واستخفافها برأي الشارع. العراق المختطف أما إيران فإنها وبعد أن حققت قفزتها العظمى في العراق من دون أن تخسر دبابة واحدة أو طائرة أو قطرة دم، وهي التي قدمت أكثر من مليون قتيل من أجل ضم العراق إلى إمبراطوريتها الجديدة في حرب الثماني السنوات ولكنها عجزت عن ذلك، فإنها ستعض على مكاسبها الإقليمية المفاجئة بأسنانها كلها، حتى باتت مراهنتها على ديمومة تجربة الحكم الراهنة في العراق ونجاحها تكافئ وربما تفوق حرصها على نجاح تجربة الحكم في إيران نفسها، لأن العراق الجسر العربي الذي يراد للعربات الفارسية العبور فوقه، نحو الآفاق البعيدة التي تظنها الزعامة الإيرانية مجالها الحيوي، من دون أن تجد حائلاً يمنعها من مواصلة زحفها عبر بحر الظلمات الذي أوقف جيوش عقبة بن نافع الفهري عن التقدم غرباً، لذلك وجدت طهران في التحول عن شرعية الاحتلال الخفي، إلى شرعية التحرك عبر النظام الموالي في العراق والذي التقطته لقمة سهلة من منقار النسر الأمريكي المرهق حد الخدر، الخطوة الأولى اللازمة للابتعاد قليلاً عن الأضواء التي قد تسبب عمى مؤقتاً، إلى الزوايا المعتمة، إذ يكون بالإمكان تحريك القوى المحلية الناعمة بأصابع حادة الأظافر، فكانت قمة بغداد العربية الثالثة والعشرين، مطلباً إيرانياً أكثر منه مطلباً عربياً، لأن بلداً بهذا التوصيف لن يمتلك القدرة على معالجة أزمة عربية وأن صغر شأنها، فكيف بوطن يمور فوق مرجل من الأزمات الكبرى التي يمكن أن تعيد رسم خارطة الجغرافيا السياسية للوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، نتيجة مشكلات سياسية واقتصادية وتركيبة سكانية معقدة قد تجر إلى أكثر من نسخة جديدة لسايكس بيكو، وبروز تيارات دينية متطرفة تفسر الدين لصالح تطرفها ونزعتها للقفز إلى الحكم أو قيادة المجتمع إلى حافات الحروب الأهلية. وجدت إيران في عقد القمة في بغداد، فرصتها التاريخية التي جاءت في الظرف المناسب جداً، كي تتسلم هي مباشرة أو عن طريق وكلائها في بغداد، قيادة مؤسسة الجامعة العربية لعام كامل تستطيع من خلاله تحديد مواعيد اجتماعات الجامعة العربية وجدول أعمالها، وممارسة ما تشتهي في الفرض أو الرفض، لأي ملف من ملفات المشهد العربي الملتبس، فترى بعضه ربيعاً، وإن جاء في عز الشتاء، أو تراه خريفاً حتى وأن جاء متزامناً مع النوروز المقدس لدى دولة الولي الفقيه، هكذا جاء انعقاد قمة بغداد ليضفي بهجة لعطلة العيد في إيران التي تستمر أسبوعين كاملين. على العموم ليس كل من نجح في عقد القمة، نجح في إغراء الزعماء العرب بحضورها بأنفسهم، وليس كل من تمكن من تحقيق هذا الهدف استطاع إنجاح القمة وجعلها تخرج بنتائج إيجابية لصالح الأهداف المرجوة منها والتي عقدت من أجلها، فربما يكون حضور جميع الزعماء العرب سبباً في طرح وجهات نظر متصادمة نتيجة لتباين زوايا النظر للمشكلات المطروحة على جدول الأعمال، مما قد يؤدي إلى تفجيرها من الداخل كما حصل في تجارب سابقة، أو على الأقل عدم خروجها بنتيجة إيجابية واحدة أو مجرد قرارات لا تجد طريقها نحو التنفيذ. وربما عقدت في التاريخ العربي المعاصر قمم صغيرة من حيث عدد من يحضرها من الدول، ولكنها في النهاية استطاعت استقطاب مواقف الدول التي لم تشارك فيها أصلاً وحشدت وراءها رأياً عاماً شعبياً حقيقياً، فأصبحت قراراتها ذات تأثير فاعل على مسار العمل العربي المشترك، وربما حصل الاستثناء بقمم ذات حضور كبير ولكنها سجلت على نفسها إخفاقاً في حجم الالتزام بقراراتها، ومراجعة لقرارات القمم العربية منذ تأسيس جامعة الدول العربية تعطينا شواهد مؤكدة على ذلك. التمثيل الخليجي (موقفنا من القمة لا يرتبط بالأوضاع الأمنية في العراق، وإنما يرتبط بالموقف من إيران)، بهذه الكلمات القليلة، حدد سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية، موقف بلاده الواضح من القمة العربية الثالثة والعشرين التي اختتمت أعمالها قرب مطار بغداد الدولي في بغداد في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، والتي شاركت فيها السعودية بوفد رأسه مندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية أحمد عبدالعزيز القطان، في رسالة معروفة المضمون من عنوانها. ومن تصريح سعود الفيصل يمكن أن نفترض أن الموقف السعودي الذي أعقب اجتماعاً لوزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، عبّر باختصار شديد عن موقف معظم دول المجلس بشأن الملفات المرتبطة بانعقاد القمة ابتداءً، أو الملفات المطروحة على جدول أعمال المؤتمر، ويمكن تأشير التقاء سعودي قطري بدأت معالمه تفرض نفسها على المشهد الإقليمي وكذلك العربي والدولي، بشأن الوضع في سوريا، وأخذ بالانسحاب على الموقف من معظم القضايا ذات الاهتمام المشترك، كالخطر المباشر المقبل من إيران أو عن طريق وكلائها المحليين في دول مجلس التعاون الخليجي بعد أن وجدت إيران في نجاحاتها السياسية وخاصة بوقوف الروس إلى جانبها، فرصتها الكبرى للانتقال إلى ساحات جديدة وخاصة منطقة الخليج العربي، وبعد أن حققت إيران إنجازها الكبير بتجيير الاحتلال الأمريكي للعراق لصالحها، بدفع مجاميع دينية إلى واجهة الحكم في بغداد وتتلقى توجيهاتها من طهران وترسم خطواتها على أساس تطابقها مع المشروع الإيراني. كان بإمكان المراقب أن يلاحظ في الماضي القريب تجاذبات بصوت عال بين الرياض والدوحة، لعوامل تتعلق بسلبيات علاقاتهما الثنائية السابقة وهو ما يمكن أن يحصل بين أي بلدين متجاورين وهو ما أثر على تماسك موقف دول مجلس التعاون الخليجي إزاء القضايا التي تهمها جميعاً، وربما كان ذلك سبباً بذهاب الدوحة بعيداً في ملفات علاقاتها الخارجية كالعلاقة الخاصة التي ربطتها لزمن طويل مع كل من دمشق وطهران، ولكن التقارب بين المملكة العربية السعودية وقطر الذي دشن مرحلة ربيع ودفء لعلاقاتهما الثنائية، مع انطلاقة (الربيع العربي)، كان كافياً لوضع قطر على الجانب الآخر من رصيف العلاقة مع طهران بنحو خاص وعلى نحو لافت، بعد أن أيقنت جميع الأطراف الخليجية أن المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، ليس مجرد شعارات أو كلمات تلقى في خطب الجمعة، بل هو مخطط طموح ومتعجل أكثر مما تحتمل طرق المنطقة لعربة بهذا الثقل والسرعة أن تسير فوقها، مشروع بعيد الغور وله آليات عمل ممنهجة وصفحات متعددة، بدأت في العراق وظنت إيران أن موسم القطاف الخليجي قد حان وعليها أن تبادر من دون إبطاء لتجربة مناجلها، في هذه اللحظة تحقق الالتقاء بين الدوحة والرياض لأنهما وجدتا أن الخطر آت إليهما معاً، وأن ما بينهما من أسباب الاختلاف لا ينبغي أن يحول دون التنسيق الثنائي الذي سيجر بعده عربة التنسيق الجماعي عربياً وإقليمياً، لمواجهة الخطر المشترك والذي يسعى لمسخ الهوية القومية وتغيير الخارطة السياسية والسكانية والمذهبية للمنطقة، والتحكم بالمسارات والخيارات السياسية والاقتصادية للمنطقة. وتصرفت طهران بانفعال شديد تماماً مع من كانت تظنه محسوباً عليها، ثم خرج على التصور النمطي الذي أرادته له في علاقاته معها ومع الأسرة الدولية، ابتعاداً أو اقتراباً على وفق ما تريده دولة الولي الفقيه، وبذلك أكدت إيران من خلال موقفها من الموقف القطري تجاه أحداث سوريا، أنها تريد من أصدقائها استنساخ مواقفها السياسية ببلاهة، ولا تريد لهم أن ينظروا بعيون المصلحة الوطنية تجاه أي ملف من الملفات المطروحة على المسرح السياسي الإقليمي أو الدولي، وبذلت الحكومة الإيرانية جهوداً استثنائية لثني قطر عن تطوير موقفها المبتعد عن طهران وبنحو خاص الموقف القطري من الاحتجاجات في سوريا، ولم تتمكن الزعامة الإيرانية من استيعاب الأسباب الحقيقية وراء الموقف القطري مما يجري في الوطن العربي، وعدّته خروجاً على روح الصداقة السابقة التي طبعت علاقات الدوحة وطهران لزمن طويل نسبياً، ولمّا لم تتمكن من تحقيق نتيجة في إحداث التغيير المطلوب في موقف قطر، بدأت صفحة جديدة من الضغط المباشر وذلك بفرض تشويش على بث قناة الجزيرة التي يحار المراقب أحياناً فيما إذا كانت قطر تدفع ثمن مواقف الجزيرة أم العكس، ولم تتردد القناة عن الإشارة إليه واتهام طهران بالوقوف وراءه، لأن طهران عدّت دور الجزيرة دوراً محورياً في تأجيج الأحداث في سوريا، كما أوعزت لعاملين في الجزيرة من المحسوبين على الزعامة الإيرانية بالاستقالة منها، في خطوة فسرها صحافيون أجانب بأنها آخر أسلحة إيران لممارسة الضغط على قطر، ومع أن حكومة المالكي أكدت أن القمة عراقية بالتخطيط والإعداد، وأنها عربية بالملفات، إلا أن منطق الابتزاز لم يغادر عقول من يحكم العراق نيابة عن إيران، فقد فرضوا منطق المقايضة بثمن رخيص، حينما وجدوا أن دول مجلس التعاون الخليجي ستقاطع القمة فيما لو تم عرض قضية الحركات المرتبطة بإيران وتريد زعزعة الاستقرار في البحرين، بخفض سقف المطالب في ملفات أخرى. العراقيون لم يحتفوا بضيوفهم تعددت أسباب تحديد مستويات الحضور للقمة، استناداً إلى تعدد دوافع المشاركة، فالدول محدودة الموارد الاقتصادية، مثل جزر القمر والسودان، شاركت بوفود على أعلى المستويات، اعتقاداً منها أن القمة هي الوعاء الدسم الذي لن يخرج منه المشاركون الفقراء إلا وحملوا معهم من كعكته أو لحم كتفه نصيباً لتنمية بلدانهم أو أرصدتهم الخاصة لا سيما مع موسم الكرم الذي رافق الخطوات التمهيدية لعقد القمة، لكن موقف دول مجلس التعاون الخليجي ترك مساحات معتمة لدى المراقب عن دواعي التباين في مستوى التمثيل في القمة، فهل هو من قبيل توزيع الأدوار؟ أم هي اختلافات في الرؤية تجاه نزاهة الحكومة العراقية في دوافعها للإصرار على استضافة القمة؟ أم هي خلافات اللحظة الأخيرة التي يمكن تفسيرها بالحضور المفاجئ لأمير الكويت؟ والذي يمكن تسويغه كويتياً برغبة الكويت في الاطمئنان إلى أن صفحات الماضي لن تقلب مجدداً، والتي استعادت بعض عناوينها بعد تجدد الحديث عن الحفر الأفقي لإنتاج النفط من حقول عراقية، وهي القضية نفسها التي طرحها العراق في الماضي وكانت من بين أسباب أزمة العلاقة بين البلدين والتي انتهت بأحداث 2 أغسطس عام 1990م، وكذلك بناء ميناء مبارك والذي ترافق مع تهديدات أطلقها جيش المهدي الذراع العسكري للتيار الصدري باستهداف موقع العمل، إن لم تتوقف الحكومة الكويتية عن العمل فيه، ربما تأتي زيارة أمير الكويت لتكريس التعهدات التي حصل عليها من نوري المالكي في زيارته الأخيرة للكويت، على صورة تعهد أخلاقي أمام القمة العربية، لكن بعض الأطراف حتى داخل التحالف الوطني الحاكم ترى في ما تتركه سياسات الكويت تجاه العراق وخاصة ما أخذته منه وتعرف أنه ليس من حقها، ستبقى عالقة في الذهن إلى الأبد وهذا خلاف ما جاء أمير الكويت لتبديده. ليست قمة بغداد هي القمة الوحيدة التي حصل خلاف بشأن مكان عقدها، ولكنها القمة الأولى وربما ستكون الأخيرة التي لم يرحب أهل البلاد التي عقدت فيها بضيوفهم ولم يتمنوا حضورهم، فالانقسام بالرأي بين العراقيين كان من السعة والوضوح بحيث أن الحكومة عاشت جواً مأزوماً قبيل انعقاد القمة بأسبوع كامل، ونشرت نحو 100 عسكري لحماية الأمن في محيط المنطقة الضيقة التي استضافت جلسات القمة ومن قبلها جلسات اللجان الوزارية، وبدلاً من أن تصطف جموع المستقبلين على جوانب الطرق التي تمر بها مواكب الوفود حاملة أعلامها كما يحصل في المناسبات المماثلة، اكتشف أعضاء الوفود وبصفة عيانية مباشرة، حجم المعاناة التي يعيشها العراقيون لأن بغداد مقطّعة الأوصال بالكتل الإسمنتية، وعربات الهمر الأمريكية ودوريات الجنود بملابس الميدان، وربما ظنوا أن هذا كله بسببهم، وما دروا أنه ظاهرة مستمرة منذ 2003م وقد تستمر لسنوات طويلة أخرى، ومع ذلك كله لم تتمكن الحكومة من ضبط الأمن على الرغم من كثير من الادعاءات التي يطلقها المسؤولون العراقيون عن واحة الأمن.