^ بين هول الأرقام التي تبين المال العام المهدور والمقدر بالملايين الذي توثقه تقارير ديوان الرقابة المالية، وبين الملايين التي تصرف على فعاليات ومهرجانات، وبين ملايين أخرى تطلب من جهات باتت تستنزف ميزانية الدولة، وبين مبالغ ضخمة توجه لمشاريع تطرأ هكذا فجأة على السطح، بتنا في حيرة حقيقية، إذ الأموال تصرف هنا وهناك في حين يظل المواطن الذي دائماً ما نقول بأنه هو “أساس التنمية” الوحيد غير المستفيد مما يصرف. معيار القياس هنا بشأن هذه الملايين هو المواطن نفسه، ومدى القياس يتعلق بما يتغير من حاله الاجتماعي والمهني والمعيشي وما يتحصل عليه من خدمات. كمثال هنا، المواطن البحريني دائماً ما يتحدث عن ضعف مدخوله الشهري، نعني هنا الراتب، ولسنا نتحدث عن “نخبة” رواتبها أعلى من معدل راتب المواطن في أغلب الوظائف الحكومية أو ممن هم على الدرجات الاعتيادية سواء الدنيا أو المتوسطة. المشكلة في هذا الشأن بأنه بات صعباً جداً اليوم تعديل وضع رواتب الموظفين دون صنع فوارق كبيرة أو دون إثارة استياء لدى هذه الشريحة أو تلك، ولكم في الزيادة الأخيرة مثال بشأن اللغط الذي حصل فيها، خاصة من قبل موظفي القطاع الخاص المنسيين دائماً باعتبار أنهم غير ملزمين للدولة، أو من قبل موظفي الهيئات الذين لم تطلهم الزيادة باعتبار أن جداول رواتبهم مختلفة وأنهم يستلمون رواتب مضاعفة عن موظفي القطاع العام، أو لنصحح هنا ونقول بأن أصحاب المناصب العليا فيها تصل رواتبهم لتفوق حتى رواتب الوزراء، بالتالي أي محاولة لمنح “زيادة منصفة وعادلة” ستقابلها عشرات ردود الأفعال المتباينة. هذا كمثال واحد على أحد هموم المواطن الدائمة، في وقت نتساءل فيه عما يمنع الدولة من إعطاء هذه الرواتب دفعة قوية مثلما يحصل في دول قريبة منا، خاصة وأن المواطن البحريني بدأ يقارن بقوة بما يحصل هناك وبين وضعه؟! لاحظوا أن لسان حال المواطن يقول دائماً بشأن أي مشروع ترصد له ملايين، أو أي شركة تضخ فيها دورياً ملايين لإنقاذها، أو أي مهرجان ضخم يكلف ملايين، أو أية مشاريع يرونها تمثل رفاهية لا ضرورة تستدعي تخصيص موازنة بالملايين، بأنه كان من الأجدى لو وضعت هذه الأموال في مشروع لرفع الرواتب، أو لحل مشكلة الإسكان. علينا اليوم ترتيب الأولويات بالنسبة للمواطن باعتباره بالفعل حجر الزاوية فعلاً لا كلاماً، وأنه هو من تعمل من أجله الدولة جاهدة لتحسين وضعه. ترتيب الأولويات بحد ذاته مشكلة، إذ لأن هناك جهات عديدة في البلد تعمل بصورة شبه منفردة، أي كل كيان لديه خططه ومشاريعه وأولوياته، بالتالي باتت عملية تحديد الأولويات أشبه بمثابة تجميع قطع التركيب “البزل” من كل قطاع أو جهة، في وقت لا توجد فيه جهة تضطلع بهذه المهمة اللهم إلا مجلس الوزراء الذي بتنا نلاحظ بأن رئيسه صاحب السمو الأمير خليفة بن سلمان يضطلع بالتخطيط في الاتجاه الصحيح بشأن المواطنين، ويوجه دائماً مسؤولي الدولة للإسراع بتنفيذ المشاريع من أجل المواطن، مع قيامه بتدشين مراحل جديدة للعمل الحكومي بين الفترة والأخرى بناء على المعطيات الموجودة على الأرض واحتياجات الناس التي يقف عليها خلال زياراته الميدانية والتي مازال يتفوق فيها بمراحل متقدمة على كثير من الوزراء الجالسين خلف مكاتبهم. هنا نعيد للمرة الألف طرح جدوى إنشاء وزارة أو هيئة عليا للتخطيط الاستراتيجي، تضطلع أولاً بالتخطيط إضافةً إلى دراسة مختلف مشاريع الوزارات والهيئات وتقيمها حسب الحاجة الملحة ومدى انعكاسها على تغيير وضع المواطن وتحسين الخدمات الموجهة له، شريطة أن تكون المشاريع المقرة تصب بشكل خالص لصالح المواطن. أدرك تماماً بأن هناك من سيقول: “وماذا عن المشاريع الأخرى؟! البلد بحاجة لمهرجانات ومشاريع وحدائق ومنتجعات وغيرها”. والإجابة هنا بأننا لا نختلف أبداً على أن هذه المشاريع مهمة جداًـ لكن بحسب الأولوية والاحتياج فإن المواطن هو صاحب الأولوية، والمشاريع الخدمية المعنية بسكنه وصحته وتعليمه وتأمين مستقبله من تقاعد وغيره هي التي يجب أن تحظى بالأولوية، ومتى ما تم استيفاء كل ذلك، حينها يمكن التفكير بشكل أكثر أريحية في مشاريع “الترف” و«الرفاهية” و«الوهج الإعلامي”. يجب تحديد الأولويات اليوم حتى توجه هذه المبالغ وهذه الملايين لتنفيذ مشاريع ذات تأثير مباشر على المواطن. أيهما أكثر أولوية، منح شركة غارقة في الخسائر تعاني من سوء إدارة ما قيمته مليار و64 مليون دينار في أقل من عامين، أو تخصيص هذا المبلغ لبناء المزيد من الوحدات السكنية؟! أيهما أكثر أولوية، منح هذا المبلغ الضخم لشركة حتى تجرب حظها في عملية إنقاذ لن تكون الأخيرة، أم حل مشكلة “العجز الإكتواري” المخيف في صندوق التقاعد والتأمينات والتي تهدد المستقبل التقاعدي لكل موظف بحريني؟! وهنا للإنصاف نقول بأن المسألة هذه ليست مرتبطة فقط بالدولة والحكومة بقدر ما هي مسؤولية أيضاً تقع على عاتق مجلس النواب كسلطة تشريعية تتضمن ممثلين للشعب، عليهم واجب تقديم المشاريع ذات الأولوية المرتبطة بالمواطن على كثير من المشاريع التي تطرح ولا تمس المواطن بشكل مباشر. عملية التخطيط ووضع الأولويات إضافة لدراسة أسباب الهدر المالي في تقارير الرقابة وتقييم كل مشروع جديد ومدى أهميته، كلها عوامل من شأنها توجيه هذه الملايين في الاتجاه الصحيح وتحقيق الكثير على أرض الواقع بما يؤثر بشكل مباشر على المواطن. وإن لم يحصل كل ذلك فمن حق أصغر مواطن أن يسألكم: أين تذهب هذه الملايين؟!
أين تذهب هذه الملايين؟!
15 أبريل 2012