كتب - جعفر الديري: عزف الجن مزاميرهم ليلتها على وقع الشماتة بالناس! فكأنهن ساحرات شكسبير في مسرحية «مكبث»، يخبرنه بمستقبله المظلم! حيث الموت والدمار! عزف الجن في ليلة هادئة؛ فأرسلوا عاصفة هوجاء جعلت أكثر من أربعة آلاف سفينة، تضرب بعضها بعضاً وتنذر بمأساة إنسانية عاشها أهل البحرين مساء الجمعة 28 سبتمبر 1925 أي قبل 88 عاماً، ذهبت في التاريخ باسم «سنة الطبعة». في منتصف الليل على الساحل الشرقي للجزيرة العربية إبان موسم الغوص، وبينما كانت سفن الغوص متواجدة على المغاصات للشروع في عملية الغوص صباحاً، وكانت أكثر السفن على مغاص يقال له «الديبل» بينما بقية سفن الغوص متفرقة على المغاصات الأخرى كمغاص داس - حاولول - أبا الحنين - جنة - حولي - اشتيه.. وغيرها؛ هبت رياح نشطة تصاحبها أمطار غزيرة، فثار البحر وزمجر، وتعالت أمواجه وتلاطمت جوانبه ودفعت الرياح والأمطار السفن مع كل الاتجاهات، فتلاطمت مع بعضها وتعالت أصوات خلق الله بترديد التضرع والتوسل إلى الله والالتجاء إلى رحمته، وهم يصارعون هول هذه الليلة الليلاء الحالكة الظلمة ويسمعون النداءات والاستغاثات في كل الاتجاهات يتعالى مع صرير الألواح وتمزق الأشرعة وتلاطم الأمواج ببعضها وغرق أكثر السفن والمراكب بما فيها إلا من كتب الله له النجاة.. وبعد انتهاء العاصفة وسكون البحر هرعت سفن الإنقاذ من الموانئ القريبة حاملة الطعام والشراب والإسعافات الأولية. نتائج الطبعة ذكر المؤرخون أن نتائج الطبعة كانت كارثية، وقدرت السفن والمراكب التي غرقت في البحر بـ80% من السفن والمراكب الموجودة في عرض البحر إبان الحادثة. ومات وفقد عدد كبير من الرجال على جميع المستويات (قيل مات 5000 شخص)، كذلك غرقت سفن من الكويت والبحرين والسعودية وعمان في هذه الكارثة، وفقدت أموال كثيرة متمثلة في حصيلة اللؤلؤ التي ابتلعها البحر مع أصحابها وبعض ما يحمله جماعة من البحارة من مال خوفاً عليه من السرقة.تلك الليلة كانت تلك الليلة كما يذكر بن قرية الباحث إبراهيم حسن إبراهيم، مقمرة والبحر هادئ كأنه لوح زجاج، وكانت سفن الغوص التابعة لأهل البحرين قد اجتمع أكثرها في هير (مغاص) اشتية بحكم موقعها المميز وكبر مساحتها وقربها من معظم المغاصات وحتى السفن التي كانت في المغاصات الواقعة حوالي هير اشتية مثل الميانة وأبوعمامة وأبولثامة وأبوحاقول وأبوالجعل وأبوالخرب كلها تقاطرت إلى هير اشتية كل ذلك استعداداً (للقفال) وهو رحلة العودة إلى أرض الوطن والذي لم يبق عليه إلا يومين حيث إن (القفال) يكون مع بداية شهر أكتوبر قبل طالع الصرفة الموافق 2 أكتوبر والتي يطلق عليها البحارة (السابعة) وهناك أهزوجة مشهورة بين أفراد المجتمع البحري تقول: (السابعة والبرد كايد… تجلب الغواص من أقصى البعايد) وعادة ما يوكل أمر إعلان موسم الغوص من قبل الحكومة إلى أحد النواخذة الكبار ويطلق عليه (أمير الغوص) وفي التاريخ المحدد وعند الصباح ترفع السفينة التي يقودها أمير الغوص البنديرة (العلم) معلنة انتهاء موسم الغوص فتبدأ السفن برفع أشرعتها البيضاء ميممة شطر الوطن وتنطلق أصوات النهامة على ظهور السفن وتعم الفرحة الجميع على أمل قريب بلقاء الأحبة وفي تلك الليلة التي لم يطلع صباحها إلا على آلاف الضحايا ومئات السفن المحطمة كان الجزوى (جميع العاملين على ظهور السفن) كعادتهم في كل ليلة يتناولون وجبة العشاء قبل أذان المغرب وهي عبارة عيش محمر وسمك ثم يؤدون الصلاة ليأوي كل واحد إلى فراشه المتواضع في جو تعبق فيه رائحة المحار المكوم على سطح السفينة وبعد يوم طويل من العمل المتواصل الذي يبدأ بعد صلاة الفجر ويمتد حتى غروب الشمس.القمر بدراًهذه الليلة كانت مميزة حيث كان القمر بدراً والبحر ساكناً والقفال على الأبواب فيطيب السمر ويحلو الحديث كل واحدٍ مع زميله يتناجيان عن لقاء الأحبة وعن الهدايا التي سيحملونها للأهل، فغالباً ما تكون السمك المملح (لحلى) وبعض القواقع البحرية للأطفال ومن بين البحارة من ينوي الزواج وخصوصاً وأن الشهر هو الربيع الأول وفيه تكثر الزيجات, وهناك من تزوج قبل الدشة ولم يتهن في شهر العسل ويمن النفس بلقاءٍ قريب مع العروس التي ودعته على أملٍ بلقاءٍ قريب ومنهم من رزق بمولودٍ قبل موسم الغوص ولم يمهله الموسم ليبقى جنب وليده إلا بضعة أيام ومنهم من فارق زوجته وهي حامل وقد اقترب تاريخ ولادتها. هناك الكثير الكثير من الحكايات التي كانت تدور على ظهور السفن وعلى البر تدور نفس الحكايات ونفس الآمال والأشواق تعتمل في الصدور انتظاراً للحظة اللقاء حيث كانت بعض الأسر خصوصاً الموسرة منها تستعد لإقامة حفل زواج لأبنائها ويجري ذلك على قدمٍ وساق بمعاونة الجيران, الذبائح قد اشتريت وهي مربوطة في جانب من البيت والنساء يقمن بتنقية العيش وهناك ملابس العروس يتم خياطتها من قبل خياطات من أهل الديرة (وليس كاليوم كل شيء مستورد) وهناك الكثير الكثير من الأمور التي تجري في المجتمع انتظاراً ليوم القفال, كل تلك الأمور مع بعضها كونت لوحة اختلط فيها الأمل بالألم والفرحة بالحزن وتبخرت كثير من الأحلام وتحطمت الكثير من الآمال على صخرة هذا الحدث المفجع. أغلب الرجال على ظهور سفن الغوص قد ذهبوا في سباتٍ عميق فالليل قد انتصف وينتظرهم يوم عمل طويل وفجأة وقعت الواقعة، أظلمت السماء وهبت ريح صرصر عاتية على شكل إعصار مع أمطارٍ غزيرة وأخذت السفن يضرب بعضها بعضاً، فتتحطم وتتطاير أجزاؤها ليتناثر الرجال الذين عليها وتعلو الأصوات بالتضرع والتوسل إلى الله سبحانه وتعالى والالتجاء إلى رحمته ومع الظلام وشدة الرياح وهول الكارثة تعلو أصوات الاستغاثة في كل الاتجاهات وكثير من الضحايا ذهبوا بسبب ارتطام أجزاء من السفن بأجسامهم وخاصة في منطقة الرأس.طالع «الزبرة»وقعت هذه الكارثة في طالعٍ يسمى (الزبرة) ويطلق عليه بحارة الدير (الساتة) باستبدال الدال بحرف التاء مع حذف السين. ويبدأ هذا الطالع (الضربة) كما يقول البحارة في 19 سبتمبر ويستمر حتى الأول من أكتوبر (وعادةً يكثر فيه هبوب الرياح الشمالية ويكون الطقس بارداً في الليل وحاراً في النهار وأحياناً يسقط فيه المطر إذا أذن الله بذلك، ويكثر فيه صرام النخيل، وهو أوان انتقال الناس إلى بيوت الشتاء فيما مضى من زمان)ويذكر الباحث إبراهيم من الحكايات التي سمعها من والده المرحوم الحاج حسن بن إبراهيم بن صالح أنه في سنة الطبعة كان عمره في حدود الأربع سنوات وقد ذهب مع والدته إلى السيف مع جموع من النساء والأطفال وكبار السن لأن جدي المرحوم إبراهيم بن صالح كان في الغوص على سفينة المرحوم الجد الحاج حماد بن أحمد وكانت من نوع (الجالبوت) ومن حسن الحظ أن سفينتهم نجت من هذا الإعصار لأنهم كانوا طارحين (متوقفين) سوافل (هير اشتية) بعيداً عن تجمع السفن.والمرحوم النوخذة الحاج حماد من أشهر نواخذة الغوص في منطقة الدير وهو الحاج حماد بن أحمد بن حماد بن علي بن حماد بن سلطان، وهو من أسرة امتهنت الغوص وصيد الأسماك ومن عائلة تعتبر من أشهر وأعرق العوائل في الدير، توفى رحمه الله في حدود 1958 عن عمر ناهز السبعين العام وبذلك يكون رحمه الله من مواليد 1888 تقريباً وقد خلف أربعة من الأولاد وهم المرحوم الحاج أحمد والمرحوم الحاج علي والمرحوم الحاج عبدعلي والمرحوم الحاج عبداللطيف وأربعة من البنات، ومازال بعض أفراد هذه العائلة يمتهنون مهنة الصيد حتى اليوم.ولما أصبح الصباح وطلعت الشمس أخذوا ينظرون في كل الاتجاهات فلم يروا أية سفينة في المغاص وقال النوخذة المرحوم الحاج حماد: ربما الخشب (السفن) قد نتروا إلى الشغب (فشت الجارم) وكلمة نتروا تعني (انطلقوا بشدة واندفاع) وفشت الجارم هو مكان تأوي إليه السفن التي تغوص في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية والشمالية الغربية إذا اشتدت الريح لأنه محصن من جهة الشمال والغرب والشرق بالشعب المرجانية وبه خورة (منطقة عميقة الماء) يطلق عليها المحصنة بتشديد الصاد وفتحها لأنها مهما اشتدت الرياح يكون البحر فيها هادئاً، ويقع فشت الجارم شمال جزيرة المحرق وجنوب غرب هير اشتية. أمر المرحوم النوخذة الحاج حماد بن أحمد بالتوجه لفشت الجارم، فرفعوا الشراع ميممين شطر فشت الجارم على أمل اللقاء ببقية السفن، عندما وصلوا إلى هناك كانت المفاجأة, لم يجدوا أية سفينة فتيقنوا أن الكارثة قد وقعت وأن اشتية قد ابتلعت معظم السفن المحتشدة فيها, ومن بطن هذه المأساة ظهر هذا المثل الدارج الذي يردده الناس في هذا المجتمع (طمت اشتية علما فيها) أي على ما فيها من سفن, وطمت كلمة عربية فصيحة تعني غطت ومنها طما الماء (الماية طمو). هذا الإعصار الذي لم يستمر إلا في حدود نصف ساعة إلا أنه خلف خسائر فادحة. هذه الكارثة التي روى تفاصيلها بعض من كتبت لهم النجاة عن طريق بعض السفن التي سلمت من هذه الطامة أو بعض من تعلق بألواح السفن حتى وصل، أو من انتشلتهم بعض السفن التي خرجت من البحرين في اليوم الثاني للقيام بعمليات الإنقاذ.من قصص الطبعةيروي أحد الناجين من هذا الإعصار المدمر «بعد منتصف الليل تغير علينا الجو فجأة وهبت عاصفة شديدة يصاحبها مطر غزير، فتلاطمت الأمواج وهرع كل واحد منا يغطي رأسه أو يختبئ في ظهر السفينة، وما هي إلا لحظات حتى تبدد كل شيء وطار كل غطاء وتدافعت كل السفن على بعضها وتعالت الأصوات وصياح خلق الله يرددون عبارة «يا سلام سلم» وعندما غطى الماء السفينة اقتلعت لوحاً وسقطت به في البحر وتمكنت من القبض عليه بشدة وأشعر أنني بين الأمواج الهائلة مرة أعلو ومرة يعلوني، ولكن الله كتب لي النجاة، فعند الفجر شاهدت البر وكأنني مولود هذه اللحظة، وحمدت الله وصليت الصبح، وإذا أنا على ساحل رأس تنورة». ويروي صاحب كتاب «من مكارم الأخلاق» قصة رجلين ركبا لوحاً فصار يسبح بهما فتعلو بهم الأمواج وتهبط في عرض البحر لا يرون سوى السماء من فوقهم والماء من تحتهم وقد أشرفا على الهلاك لما حل بهما من الكرب والشدة فكان أحدهما يلهج لسانه بذكر الله ويردد «يا كريم يا كريم»، أما الآخر فقد استفزه الشيطان وأغواه بسوء الظن بربه فقال لرفيقه: تقول يا كريم والبحر وهوامه تحتك، وبعد لحظات بدا على هذا الرجل التعب والضعف حتى فلتت يداه من هذا اللوح وهوى إلى البحر وغرق... أما رفيقه الذي يلهج بذكر الله ويقول: يا كريم يا كريم «فقد نجا ورمى به الموج على ساحل البحر فتلقاه أناس وأنقذوه بماء وطعام، وهذا من لطف الله بعباده وحسن الظن به».ويقول آخر... إنه في ليلة كان على ظهر سفينة غوص مع مجموعة من الغواصين فهبت علينا ريح شديدة وأظلمت السماء وأمطرت وتعالت الأمواج حول السفينة تدور بها الرياح بشدة في وسط البحر حتى امتلأت بالماء وتقاذفنا منها يميناً ويساراً في البحر بدون شعور فهيأ الله لي لوحاً يطفو على الماء فأمسكت به وركبت عليه وكان علي إزار مربوط به حزام به سكين «خنجر» فبينما أنا ممسك باللوح اقترب مني سباح وحاول أن يأخذ اللوح مني فعمدت إلى السكين ووخزته بها طعناً فابتعد عني وأنا لا أكاد أراه من شدة الظلام ولا أعلم ما حل به، هل مات أم نجا فبقيت على هذا اللوح وأنا في حالة يرثى لها، وقد انهارت قواي وامتلأ بطني بالمياه، ولا أعلم في أي اتجاه أسير حتى فقدت الشعور، وإذا أنا بالقرب من البر في وقت الضحى فانتشلتني سفن الإنقاذ إلى الساحل فبادروني برفع رجلي إلى أعلى ورأسي إلى أسفل حتى خرج الماء من بطني ولم أفق إلا بعد يومين وبقيت بعدها شهراً كاملاً مريضاً إلى أن شفاني الله وكتب لي حياة جديدة.وتحدث أحدهم فذكر أنه كانوا على ظهر السفينة في أحد المغاصات مع أحد النواخذة من البحرين. وكانوا على مغاص يقال له (جنه) يروي ذلك عن أبيه الذي قال: بعدما بدأت العاصفة ونزول الأمطار كنا نرى السفن تتلاطم مع بعضها وكنا نرى أنفسنا ندور في نفس المكان حتى طيرت الأمواج بمركبنا بعيداً, وعندما هدأت العاصفــة تفقدنا بعضنا وكنا -أهل مرات خمسة بحارة- من ضمن الناجين ومركبنا تتساقط منه الحطام ونحن في ذعر شديد ولا ندري في أي مكان نحن لا نرى إلا السمــاء والماء فاتجهنا بالدعاء والاستغاثة بالله وقراءة القران... وبعد عدة أيام من ضياعنا وعند الفجر شاهدنا على بعد أناس في مركب صغير فاتجهنا لهم فعرفوا أننا ضائعون وأنقذونا بالماء والطعام وبدأت فينا الحياة وتعجبوا من حالتنا وحالة مركبنا وأخبرونا أننا عند الشواطئ العمانية ففرحنا وبقينا في عمان عدة أيام لإصلاح مركبنا ثم عدنا مع النوخذة وبحارته إلى البحرين إلى أن من الله علينا بالنجاة وكانت خاتمة البحر وتوديعه.وأورد صاحب كتاب الدلم قصة الشاعر راشد بن عبدالله بن حركان من أهالي الدلم قال «توجه الشاعر إلى الخليج العربي يبحث عن اللؤلؤ والرزق كغيره من النجديين الذين امتهنوا مهنة الغوص في البحر، ولما كان مع صحبيه في ليلة من الليالي على ظهر مركب بحري هبت عليهم ريح عاصفــة فماجت بهم الأمواج وأصبح مركبهم في عداد الغرقى مع أنه لايزال على وجه البحر فصاروا يتلفتون يميناً ويساراً بحثاً عن منقذ ووزعوا المهام بينهم فكان بعضهم يحافظ على رفع الناف (السارية) التي جعلوا فوقها ناراً عل من يراها من بعيد يتجه إليهم لينقذهم، أما صاحبنا الشاعر مهمته غرف المياه التي صارت تتدفق في وسط السفينة يغرف الماء حتى لا تغرق فكتب لهم النجاة.