^  مفهوم الدولة المدنية الذي كثر استخدامه بشكل متكرر من قبل بعض التيارات والأحزاب الدينية في الآونة الأخيرة، كما أشرنا في مقال سابق، لا يتصل مطلقاً بالمعاني المباشرة للمدنية المناقضة للبداوة، ولا بمعنى الدولة غير الخاضعة للعسكرة، كما قد يوحي المسمى، بل إن المعنى المقصود في هذا السياق هو الدولة التي تخضع للدستور والقانون وإرادة الناس فيها، وهذا يعني بالضرورة ألا تخضع مباشرة لسلطة الدين، ولا لسلطة رجال الدين، دون أن يفضي ذلك إلى إقصاء الدين من الحياة العامة، ولكنه يؤدي بالضرورة إلى الفصل بين الدين والسياسة بالمعنى الديمقراطي للفصل، وليس بين الدين والدولة في بلد إسلامي، لأن ذلك الفصل لا يستقيم، بل وغير ممكن، ولا ندري هنا، هل أن التيارات الدينية في صياغتها الجديدة الصاعدة مع الربيع العربي عندما تتحدث عن الدولة المدنية، تقصد هذا المعنى الذي يلغي في النهاية الفاصل بين الرؤية الدينية والرؤية المدنية الديمقراطية للدولة أم أنها تقصد المبنى دون المعنى لمجرد التمويه والتسويق؟!. لنتمكن من الإجابة عن هكذا سؤال، علينا أن نستكمل بعض النقاط التي بدأنا في الجزء الأول من هذا المقال: الحقيقة الأولى: هي -على الأرجح- أن الخطاب الديني الجديد والصاعد إلى عالم السلطة، من خلال تبنيه لشعار إقامة الدولة المدنية، يحاول الترويج لنفسه على أنه خطاب عصري يتماشى مع مقتضيات الحياة السياسية الديمقراطية، وأنه قادر على الوفاء بوعود الحرية والديمقراطية التي تتطلبها أنظمة الحكم في الدول الحديثة، وذلك في محاولة مشروعة للإقناع بأنه يستحق أن يمنح الثقة والفرصة للمشاركة في قطف ثمار ربيع الانتفاضات العربية، مستغلاً نجاح النموذج التركي في محاولة للتماهي به سياسياً (مع أن النموذج التركي لم يأت بعد ثورة أو انتفاضة بل بعد مخاض سياسي وفكري قبل فيه إسلاميو تركيا التعامل مع فكرة الفصل بين الدين والسياسة، بل وقبلوا بعلوية الدولة اللائكية كشكل يعبر عن انتمائهم للعصر دون اللجوء إلى اللعبة التي يتولى القيام بها الإسلاميون في المنطقة العربية). الحقيقة الثانية: إن الجماعات والأحزاب الدينية مهما اختلفت مسمياتها، وبالرغم من الشعارات التي تحرص هذه الأيام على رفعها بشأن مدنية الدولة، تدرك جيداً أن مدنية الدولة بالمعنى الديمقراطي تتنافى مع مرجعياتها ومنابتها الإيديولوجية، وأنها عندما تتحدث عن مدنية الدولة فهي تقصد أمراً آخر لا علاقة له بالديمقراطية وبإدارة الشأن العام وفقاً لآليات العمل الديمقراطي الحقيقي الذي لا يقوم على الانتخاب فقط كما قد يتراءى لمن يرى أنه أكثرية في هذه اللحظة التاريخية الحرجة. الحقيقة الثالثة: إن الأنظمة الشمولية العربية قد خوفت الناس في الداخل والخارج من التيارات الدينية، وحالت بينهم وبين أن يفهموا حقيقة خطابها الملتبس بأنفسهم، وفي غمرة هذه المناورة، ظهرت المبررات السلطوية القائلة بسدّ الطريق أمام الإسلاميين الساعين لاختطاف السلطة، وكانت إحدى المبرّرات التي تعللت بها عديد الأنظمة لتأجيل الديمقراطية في البلاد العربية والتخويف منها هو ملف الإسلاميين، بما انعكس على إبطاء نمو وتطور الخطاب الديمقراطي الحرّ والفكر الديمقراطي عامة، حيث لم يتوافر للمواطنين العرب الفرصة الكافية لاكتشاف الخطابات الدينية على حقيقتها من خلال تقديم نفسها بنفسها، بدعوى المحافظة على أمن المجتمع من الإرهاب، وقد ساهمت تلك العملية في تعطيل التطور السياسي الطبيعي لمثل هذه الحركات السياسي التي ترتبط بالدين أو تعبر من خلاله عن رؤاها. في الأخير، فإن التحول الذي تشهده المجتمعات العربية حالياً، ويتسم بصعود غير مسبوق -لكنه مفهوم ومبرر للتيارات الدينية- يقتضي التأكيد على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة (وليس بين الدين والدولة) تجنباً للوقوع مجدداً في ربقة الديكتاتورية الأكثر عنفاً وفتكاً بالمجتمع، إذا ما تسلطت باسم الدين، فيكون ذلك معرقلاً لنهضة المجتمع وتطوره نحو الديمقراطية الحقيقية، وأولى بالحركات والجماعات الدينية أن تتحول بداية إلى أحزاب مدنية حقيقية ومنفتحة ومستقلة عن المرجعيات الدينية وعن الخطاب الديني - الطائفي لتكون ممثلة لجميع المواطنين، بغض النظر عن دياناتهم وطوائفهم، ويكون الانتماء إليها على أساس برنامج سياسي مدني واضح لا علاقة لها بالمرجعيات الدينية الطائفية مثلما هو حاصل في الوقت الحاضر. وهذا يعني أن تتحول هذه الجماعات -إذا كانت صادقة في شعار مدنية الدولة- إلى حزب سياسي عادي ذي برنامج عام مثل بقية الأحزاب، من خصوصياته الدفاع عن القيم العظيمة للإسلام وعن ثقافته، وهذا ما سيعطي للحركة الإسلامية مصداقية أكبر عندما تذوب في المجتمع، وفي مؤسساته وجمعياته ونواديه المدنية، وتترك المجتمع يتفاعل مع دينه ويعمق تعامله معه كجسم متكامل مترابط الأعضاء دون أدلجة ودون تحويل دين الشعب إلى أيديولوجيا، ومن ثمة تحويل تلك الأيدولوجيا إلى أيديولوجيا خاصة بحزب ديني بل وبطائفة منه فقط