صدر مؤخرا العدد الجديد (17) من المجلة الفصلية "الثقافة الشعبية”، بإشراف وإدارة الشاعر علي عبدالله خليفة. ونقرأ في تصدير المجلة لرئيس قسم الفولكلور بجامعة الخرطوم يوسف حسن مدني: "ان الثقافة الشعبية أو الفلكلور أو الموروث الثقافي ...الخ كلها مترادفات لمقصد واحد هو ثقافة الشعوب المتداولة بينهم والمنقولة من جيل إلى جيل. قام بتعريفها الكثيرون، منهم ثيودور قاستير في القاموس الوسيط للفلكلور والميثولوجيا والخرافة حيث قال:«هو ذلك الجزء من الثقافة الإنسانية المحفوظ شعورياً أو لا شعورياً في المعتقدات والممارسات والعادات وفي ما يحدث في المحيط الاجتماعي في الأسطورة والحكاية والخرافة. من ناحية أخرى يعبر الفلكلور عن الأخلاق والقيم التي تميّز المجموعة وليست تلك التي يحملها الفرد، مودعة في فنونه وحرفه وصناعاته”... انتهى تعريف ثيودور قاستير.وأضاف : "فإذا كانت القيم والأخلاق الخاصة بهذه الأمة أو تلك مودعة في الثقافة الشعبية، فلا غرو أن يكون ميلاد هذه الدراسات في أوروبا متواكباً مع ظهور القوميات الحديثة. ولي قناعة راسخة أن نشاط الشعوب في حركة حياتهم اليومية، في أدبهم الشعبي وعاداتهم وحرفهم التقليدية وفنون أدائهم من موسيقى ورقص وغناء هي مستودعات للذاكرة الجمعية إذا استنطقت نطقت بهوية أهلها قسماً وحقاً. وهذا لا يتأتى إلا من خلال الجمع الميداني المباشر الذي يساعدنا على فهم الثقافة من داخل جسمها فهما موضوعيا أصيلا يقوم على النظر بعيون الشعوب والنطق بلسانهم، وليس على إطلاق الأحكام من الخارج وبالوكالة عن الشعوب”.وتابع مدني: "عانت الدراسات كثيرا من الاهتمام بالتاريخ السياسي والإداري وطغيان ذلك على التاريخ الثقافي الاجتماعي، وهذا ليس تقليلا من شأن التاريخ السياسي أو الإداري، فالسياق السياسي مع السياق الاجتماعي والاقتصادي والأيكولوجي هي السياقات التي تنتج الثقافة الشعبية في إطار التراكم التاريخي.لقد سبق وقرأنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الثقافة الشعبية العام 2008 "السعي إلى الإحاطة بأصول الأنا فينا في زمن الخشية والحيرة والاضطراب إزاء توجس الآخر منا وتخبطنا في تقديم أنفسنا إليه. وأنى لنا أن نفعل والنماذج تتعاورنا كأنها تأخذنا من جذورنا”. وهذا قول في صلب حقيقة فهم الأنا وفهم الآخر المستند على مخزون مستودعات الذاكرة الشعبية الشاهدة على الهوية والناطق الرسمي باسم الشعوب في كشف هويتها والتعبير عنها. فإن دراسة مستودعات الموروث والثقافة الشعبية كذاكرة جمعية ليست ترفاً، وإنما هي محاولات جادة لاستنطاق السجل الثقافي لفهم الثقافة من داخل جسمها، لكي تعبر هذه الثقافة أو تلك عن نفسها يتعين علينا الابتعاد عن إطلاق الأحكام القيمية المسبقة والقفز فوق الحقائق.ومن المعروف أن الموروث الثقافي أو الثقافة الشعبية تتسم بميسم التوليف الثقافي السلمي؛ لأنه في كثير من المستودعات الثقافية نجد توليفا من تيارات ثقافية متعددة، متصالحة ومتحدة ومنسجمة انسجاماً تاماً. كان ذلك في طقوس العبور أو القصة الشعبية أو الشعر أو الثقافة المادية أو ثقافة الأداء والموسيقى وكذلك في اللغة العامية التي ينطق بها هذا النشاط البشري، فإلى جانب التيارات المحلية نجد تيارات ثقافية أخرى وافدة تأخذ شكل هارمونيا ثقافية عالية الإنسانية. هذا هو الفهم الذي تنشده، أذ أن الثقافة الشعبية هي ثقافة سلام لا مراء فيها ولا شك.أذكر هنا أن كل أدبيات المنظمة الدولية للفن الشعبي تقوم على عمد واحد هو أن الثقافه الشعبية هي ثقافة سلام. ويتعين علينا الابتعاد عن روح الدراسات الأولى التي سيطرت على الفكر الأوروبي والتي جربها وعاشها الرواد الأوائل لعلم الفلكلور، وهي روح أجسامهم بأن أساليب العيش الحديثة تهدد الموروث الشعبي بالاندثار، ذلك من جراء الحركة الرومانسية التي سادت الفكر الأوروبي وأشاعت فيه الحنين إلى حياة الماضي وبساطة الحياة الريفية ونقائها. وعلى إثر ذلك انتشرت هذه الفكرة وهي أن الثقافة الشعبية أو الفلكلور دائماً تبتعد عن ساحة الحاضر زماناً وعن الحواضر والمدن الكبيرة وحركة الحياة اليومية مكاناً وواقعاً معاشاً. لكن يمكن مقابلة هذه الفكرة بفكرة واقعية مغايرة للفكر الرومانسي، وهي أن حركة التاريخ المستمر والحياة المتجددة تجددا يفرضه الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأيكولوجي في إطار التاريخ. بالضرورة - تفرز- في كل مرحلة قيماً وأخلاقاً وعادات وطرق للتعبير تتفق مع طبيعة التغيير الذي حدث في المكونات الأساسية للمجتمع. إذن الثقافة الشعبية هي ليست بالبعيدة عنا زماناً ومكاناً وليست هي مرتبطة دائماً بحياة الماضي وبساطة الحياة الريفية ونقائها !!