تروي إحدى أساطير العرب التي وجدت لها موضعاً وثيراً في كتب التاريخ والأدب، أن عمرو بن هند ملك الحيرة، جالس أصحابه يوماً على الشراب، وسألهم، هل تعرفون أحداً من العرب تأنف أمه أن تخدم أمي؟ فأجابوه: نعم، عمرو بن كلثوم التغلبي، فأمه ليلى بنت المهلل.. وأسهبوا في تفصيل حسبها ونسبها. فدبر عمرو بن هند مكيدة دعا فيها عمرو بن كلثوم ووالدته للطعام، وطلبت والدة عمرو بن هند من ليلى بنت المهلهل مناولتها أطباق الطعام عدة مرات فتمنعت إلى أن أحست بالإذلال فصرخت صرختها الجاهلية «وإذلالاه.. يا لتغلب». فسمع ابنها صرختها واستشعر المكيدة وامتشق سيفاً قطع به رأس الملك عمرو بن هند وخرج من الخيمة صارخاً و»إذلالاه يا لتغلب»: فخرج معه بنو تغلب ممن صاحبوه لدعوة الغداء فقتلوا الرجال وسبوا النساء وعادوا ديارهم لم يفقدوا أحداً.
وتروي مقاعد الدراسة في الثانويات العربية والجامعات إن هذه الحادثة أنتجت معلقة من أعظم معلقات العرب، وأكثرها حماسة، أنشدها عمرو بن كلثوم بعد أن «أدّب» غريمة عمرو بن هند وقومه، وأن معلقته قد كتبت بماء الذهب، وعلقت على أستار الكعبة، وطاف العرب حولها تقديساً للشرف العربي والأنفة. وقد درسنا القصيدة والواقعة والحرب ولم نخرج من درس الشرف العربي الرفيع إلا وقد حفظنا، بكل حماسة وطواعية، ثلاثة أبيات هي بحق من «أرْعن» ما قاله العرب:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
البيت الأول هو البيت الذي اجتهد جهابذة فقهاء اللغة والمعاجم في تفسير الجهل بمعنى الغضب، واشتقوا منه تفسيرهم، مفهوم العصر الجاهلي وسبب تسميته جاهلياً، بأن نزعة الغضب كانت غالبة عليه قبل أن يهذبها الإسلام!!
وبعد سنوات من دراسة الأدب العربي وترديد ما تعلمته «آلياً»، وبعد تنبه مباغت لأثر جرثومة الشرف العربي أو الغضب العربي، يتبادر إلى الذهن أسئلة لم تناقش في قاعات الجامعات ولا كتب التراث أو الكتب التي لفت لف التراث: لماذا دبر الملك عمرو بن هند تلك المكيدة السخيفة لغريمة بن كلثوم؟ وكيف عرف الأخير أن ما تعرضت له أمه ابنة المهلهل يستحق أن يقطع كل تلك الرؤوس لأجله، وهو المتوسد مقعده بين كؤوس الخمر؟ ولم خلد العرب تلك القصيدة وتلك الحادثة التي تحولت، في حقيقة بنيتها، من جريمة قتل إلى جريمة حرب؟ وكيف استسغنا نحن طلاب الأدب، أكرر «الأدب» تلك المعاني الطافحة بالكراهية والغضب والانتقام وتضخم الذات واستصغار الآخر التي ضجت بها المعلقة وقصة «فتك» بن كلثوم بابن هند؟
ويجدُ المرء نفسه وهو يجِدُّ في الأسئلة، متورطا في تفسير مفهوم العروبة الذي ورثناه من الأساطير الجاهلية. وهو تفسير يقوم على أفضلية «الحسب والنسب» والتميز العرقي لا لشيء سوى الوهم بجودة الجينات العربية، وتفردها عن باقي خلق الله. وسنجد ذلك في جميع القصائد الجاهلية التي تباهت بالحروب القبلية طويلة الأمد أو تباكت عليها، حيث تلتهب بالمباهاة القبلية ومعاني الفخر على الآخر وهجائه، واستمر ذلك حتى في قصائد الحروب السياسية بين الأمويين وخصومهم والعباسيين وأعدائهم. وقد تكون أسوأ النماذج التي خلفتها الثقافة العربية في الفخر والهجاء قصائد النقائض التي كانت تبادل فضائح بين الفرزدق وجرير في قوالب شعر.
إنها ثقافة ذات جذور وامتدادات وليست شعراً مرسلاً نغرق في غيبوبته وننتشي فخراً بما نظنه كان، وهو لم يزل وقائماً في حروبنا العربية وخلافاتنا السياسية والثقافية غير المبررة. نظرتنا التاريخية والآنية غير الموضوعية لأنفسنا، هي أحد الأسباب التي تجعلنا نتعايش بسلام غريب مع واقعنا المزري الذي يعلن بكل صراحة بأننا في ذيل قائمة الأمم وأننا مازلنا نعيش بعقلية أجدادنا الجاهلية.
وتروي مقاعد الدراسة في الثانويات العربية والجامعات إن هذه الحادثة أنتجت معلقة من أعظم معلقات العرب، وأكثرها حماسة، أنشدها عمرو بن كلثوم بعد أن «أدّب» غريمة عمرو بن هند وقومه، وأن معلقته قد كتبت بماء الذهب، وعلقت على أستار الكعبة، وطاف العرب حولها تقديساً للشرف العربي والأنفة. وقد درسنا القصيدة والواقعة والحرب ولم نخرج من درس الشرف العربي الرفيع إلا وقد حفظنا، بكل حماسة وطواعية، ثلاثة أبيات هي بحق من «أرْعن» ما قاله العرب:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
البيت الأول هو البيت الذي اجتهد جهابذة فقهاء اللغة والمعاجم في تفسير الجهل بمعنى الغضب، واشتقوا منه تفسيرهم، مفهوم العصر الجاهلي وسبب تسميته جاهلياً، بأن نزعة الغضب كانت غالبة عليه قبل أن يهذبها الإسلام!!
وبعد سنوات من دراسة الأدب العربي وترديد ما تعلمته «آلياً»، وبعد تنبه مباغت لأثر جرثومة الشرف العربي أو الغضب العربي، يتبادر إلى الذهن أسئلة لم تناقش في قاعات الجامعات ولا كتب التراث أو الكتب التي لفت لف التراث: لماذا دبر الملك عمرو بن هند تلك المكيدة السخيفة لغريمة بن كلثوم؟ وكيف عرف الأخير أن ما تعرضت له أمه ابنة المهلهل يستحق أن يقطع كل تلك الرؤوس لأجله، وهو المتوسد مقعده بين كؤوس الخمر؟ ولم خلد العرب تلك القصيدة وتلك الحادثة التي تحولت، في حقيقة بنيتها، من جريمة قتل إلى جريمة حرب؟ وكيف استسغنا نحن طلاب الأدب، أكرر «الأدب» تلك المعاني الطافحة بالكراهية والغضب والانتقام وتضخم الذات واستصغار الآخر التي ضجت بها المعلقة وقصة «فتك» بن كلثوم بابن هند؟
ويجدُ المرء نفسه وهو يجِدُّ في الأسئلة، متورطا في تفسير مفهوم العروبة الذي ورثناه من الأساطير الجاهلية. وهو تفسير يقوم على أفضلية «الحسب والنسب» والتميز العرقي لا لشيء سوى الوهم بجودة الجينات العربية، وتفردها عن باقي خلق الله. وسنجد ذلك في جميع القصائد الجاهلية التي تباهت بالحروب القبلية طويلة الأمد أو تباكت عليها، حيث تلتهب بالمباهاة القبلية ومعاني الفخر على الآخر وهجائه، واستمر ذلك حتى في قصائد الحروب السياسية بين الأمويين وخصومهم والعباسيين وأعدائهم. وقد تكون أسوأ النماذج التي خلفتها الثقافة العربية في الفخر والهجاء قصائد النقائض التي كانت تبادل فضائح بين الفرزدق وجرير في قوالب شعر.
إنها ثقافة ذات جذور وامتدادات وليست شعراً مرسلاً نغرق في غيبوبته وننتشي فخراً بما نظنه كان، وهو لم يزل وقائماً في حروبنا العربية وخلافاتنا السياسية والثقافية غير المبررة. نظرتنا التاريخية والآنية غير الموضوعية لأنفسنا، هي أحد الأسباب التي تجعلنا نتعايش بسلام غريب مع واقعنا المزري الذي يعلن بكل صراحة بأننا في ذيل قائمة الأمم وأننا مازلنا نعيش بعقلية أجدادنا الجاهلية.