كتبت فاطمة عبدالله خليل :
العناصر الأربعة التي تشكل نظام الكون في الطبيعة، يقابلها عناصر أربعة في المجمتع تشكل الحضارة، وهي العناصر التي أوردها (وول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة)، فحضارة الأمم أو المجتمعات نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي، من خلال (الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون). ويبدأ هذا الإنتاج الثقافي حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها، وهو ما اختصرته سورة قريش في 4 آيات قرآنية عميقة المعنى. والتواصل الحضاري يرسي الحضارات المختلفة عبر رؤية استراتيجية تنشد الإنسان، وتؤمن بحوار الحضارات وتواصلها باعتباره خياراً يؤدي بالإنسانية إلى الاستقرار. ولا يأتي التواصل إلا بعد مجموعة من الصراعات الفكرية والاقتصادية والاستراتيجية؛ وهذا ما حدث في الخيار الاستراتيجي الصيني الكبير في نزوحها نحو خلق طريق تواصل حضاري يتلبس الاقتصاد كمظهر رغم أنه مشروع حضاري متكامل تحت عنوان طريق الحرير الجديد.
أما الخليج العربي فإن ثمة محركات مختلفة تدفع بالعمل الثقافي إلى النهوض، ولعله الرسالة المثلى المبرهنة للعالم أجمع باستقرار المنطقة وعطائها ونمائها رغم أنف أي اضطراب أمني عارض إن وجد، وأن الخليج العربي واحة غناء تنعم بالأمن وعلى مستوى من الرقي في نظمها السياسية والاجتماعية، وأن التفاتتها للفن والثقافة ضرب من الاستدامة التي تعمل عليها في سبيل إعلاء هويتها وصورتها أمام العالم، فالثقافة لا يمكن فصلها على الإطلاق عن السياسة والاقتصاد والإعلام، فهي واحدة من مقومات الحضارة ورافد أساس لها. لهذا تأخذنا «الوطن» إلى ضفة خليجية استثنائية هذه المرة، للحديث عن واحة الثقافة وعبق الآثار في الخليج العربي، في تفاعلاتها الإيقاعية مع الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الخصوصية، وهي الجوانب التي طرقتها الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، في حديث ثقافي راقٍ خصت به «ضفاف الخليج».
الخليج منبر الثقافة العربية
استهلت الشيخة حديثها بأمنية أن يكون الخليج العربي المنبر الثقافي للعرب، معززة رأيها بالقول «هنالك عددٌ من المشاريع والبنى التحتية في دول الخليج، فلو تحدثنا عن أبوظبي مع تأسيس «اللوفر» وانطلاقة عدد كبير من المشاريع الأساسية في الكويت والبحرين -وهي سباقة في هذا المجال- وتحاول أن تجاري الوضع الحالي ببنى أساسية تحتية».
وأضافت إن «المسرح الذي دشن في المنامة باحتفالية المنامة عاصمة الثقافة العربية بدعم كريم من قبل جلالة الملك المفدى، أحد المراكز الثقافية الأساسية التي نؤمل أن تكون مصدر جذب لسياحة ثقافية نوعية، فإننا نحاول دائماً في دول الخليج أن يكون هناك توجه مشترك، وعلى مدى سنوات مع اجتماعات وزراء الثقافة كنت أحاول أن أطرح مشروعاً لو تحقق لكان رائداً ومنتجاً حقيقياً يفعل دور الاجتماعات، المشروع هو أن يكون في كل عامين أو كل أربعة أعوام مشروع في بلد خليجي يؤسس للبنية التحتية للثقافة، فإننا للأسف نكرس دائماً للاحتفالات والفعاليات واللقاءات، أما المباني فليس لها حظ من جدول أعمال وزراء الثقافة، ويحزنني أن تكون هناك اجتماعات دورية لا ينتج عنها مثل هذا المشروع الحيوي، وتكريس مفهومه بصورة حقيقية».
وأردفت أنه «نحن لا نقوم بالاجتماعات لكي نتبادل أطراف الحديث وإنما لكي نؤسس، والعمارة هي لغة الحضارة، لذلك نسعى أن تكون هناك مصادر إشعاع حضاري في دول مجلس التعاون».
وحول العمارة تحدثت عن «الإكسبو» «وهو مشاركة عالمية تجمع كل الدول، وجميل أن نتذكر أن مشاركة البحرين في إكسبو ميلان 2015 حصدت جائزة العمارة «الجائزة الفضية»، ونحن أول بلد خليجي يحصل على هذا النوع من الجوائز، إلى جانب تميزنا في العمارة، ونحاول أن نصل بهذا للمتلقي في العالم وليس المتلقي المحلي وحسب، فنحن نمد جسور التواصل مع العالم أجمع. لذا نجد مشاريعنا تتصدر أغلفة المجلات العالمية للعمارة، وفي الصيف الماضي كانت دار المحرق التي صممها المكتب البلجيكي العالمي OFFICE على غلاف مجلة «إل كروكي» الإسبانية وهي واحدة من أهم المجلات العالمية المتخصصة بالهندسة والعمارة».
وفي نظرة أكثر شمولية شخصت الوضع الحالي الذي تعيشه الأمة العربية، مشيرةً إلى «التراجع الذي تشهده عواصم عربية كبرى عن دورها الثقافي، إذ كان لبنان وما زال رائداً في هذا المجال، وبالرغم من المحاولات الفردية، إلا أنه ليس هنالك مساعٍ حكومية واضحة، فلبنان كان مصدر إلهام في الترجمة والأنشطة الثقافية وفي كل فروع الثقافة، إلا أننا نجد الأزمات تؤثر أول ما تؤثر على هذا الشأن، وكذلك مصر التي تعد أيضاً قلب العروبة النابض -ليس بالأفكار فقط- وإنما أيضاً بالمشاريع والأسماء والعمالقة للأسف تراجع دورها في هذا المجال»، واستدركت قائلة «هكذا هي ربما مسيرة الحياة.. تخبو مشاريع وتتقد أخرى».
وفي نظرة أخرى ألقتها على الخليج العربي أشارت إلى الدور الواضح والتوجه الكبير لدعم مشاريع الثقافة، فـ«أبوظبي بلد خليجي يكرس الثقافة عنواناً له، ربما دبي تألقت في المشاريع التجارية وفي استقطاب السياحة الترفيهية، ولكنها تتجه الآن أيضاً إلى الثقافة؛ فالثقافة في عصرنا الحاضر وسيلة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة التي تطالب بها الأمم المتحدة عبر 17 هدفاً لتحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030، ولكن إغفال هذا الجانب للأسف، يعرض شبابنا وأولادنا ومجتمعاتنا لتراجع الفكر وتضارب التوجهات، بدلاً من أن يكون الهم وطنياً وحافزاً على العطاء والإبداع، نتراجع ونعود عصوراً لمناقشة أمور تجاوزها الزمن، ونكرسها ربما لنغذي انطباعات وصورة ذهنية اختلّت لدى الآخر عن الشعوب العربية».
المحرق عاصمة للثقافة
ولفتت إلى أن الخليج العربي يعمل جاهداً على توظيف سلاح الثقافة بأجمل شكل، مشيرة إلى أن «المحرق ستكون عاصمة للثقافة الإسلامية 2018؛ ففي هذا العام نحاول أن نكرس مفهوم التنوير والفنون الإسلامية، ونحاول أن نرتقي بالصورة التي شُوهت لنربط الإسلام بالفنون وبالجمال، وستكون الآية الكريمة في سورة النحل (ولكم فيها جمالٌ) عنواناً لأنشطتنا».
واستطردت «نسعى للعودة إلى أصول الفهم الحديث، أو الفهم الذكي لمعانٍ سامية تجاوزها الكثيرون ولجؤوا إلى التحريم، وربما التراجع في كثير من المجالات»، معللة ذلك بقولها «نحزن ونحاول قدر الإمكان أن نحفز المتلقي، سواء في موضوع العام المقبل، أو موضوع هذا العام «آثارنا إن حكت»، للتوعية وربط المواطن بوطنه، وليس الفكر الشمولي الذي يتناسى الأوطان وينصرف إلى مفاهيم لا نتفق معه عليها».
ومن هنا عبرت عن الثقافة بـ«القوة الفاعلة»، التي من شأنها أن تثري المجتمعات وحضارتها، ووقفت على ذلك بقولها «من المهم أن توظف جزءاً هاماً من المجتمع وهو العمل الثقافي النوعي، الذي ربما أسيء فهمه واستخدامه وأعتقد أنه ترف لا لزوم له».
خليجنا واحد
وحول دعم الثقافة لقرار الاتحاد الخليجي، أفادت أن «الثقافة أساس قوي، أخذه البعض على أنه من مسلمات المشتركات في الخليج العربي، فلم يعد البعض يحسب له حساباً كمقوم من مقومات الاتحاد الخليجي، في حين أنه لو اختلت تلك المشتركات لما تحققت هذه الوحدة». وأردفت «جميل أن تكون البحرين هي من صممت شعار (خليجنا واحد)، الذي تكرس عنواناً لاجتماع وزراء ومدراء الثقافة والمختصين فيها».
وأضافت لقد «طلبت في اجتماع وزراء الثقافة بما أننا نعتمد شعار (خليجنا واحد) أن يكون هنالك جناح خاص للخليج العربي يجمع كل ما يميزه في إكسبو دبي 2020».
مدينة على طريق الحرير
ونظراً لما يشكله «طريق الحرير» المنطلق من الصين من أهمية بالغة في اقتصادات العالم، وما يلقي به من ظلال ذات أبعاد سياسية وعسكرية وكذلك ثقافية، كان لنا في هذا وقفة مع رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، التي قدمت للموضوع بقولها «كلنا يعلم أن الصين هي القوة الاقتصادية القادمة، وجميع الدراسات تؤكد أن النمو الاقتصادي وما نراه من أرقام ومشاريع هي المستقبل لهذا الكوكب بأكمله وعلينا ألا نغفل هذه القوة الاقتصادية، وأن يكون الخليج جزءاً من هذا المشروع المتكامل وأن نستثمر موقع دول الخليج كونها تقع ضمن محطات الرحلة التي بني عليها مشروع طريق الحرير، فالخليج أجمع يعد محطة هامة نحاول أن يكون لها حضور في هذا المسار التاريخي الاقتصادي المستقبلي، ولن نغيب عن طريق الحرير لأننا كنا جزءاً من هذا التواصل بين العالم».
واستطردت «واستثماراً لذلك المشروع الهام كانت مدينة «على طريق الحرير»، وهي فكرة لمحطة أو مدينة على طريق الحرير يحتفى بها كل عام، بحيث نطلق هذا المشروع وأن نحتفي بمدن طريق الحرير مثلما نحتفي بعواصم الثقافة ونحتفي بمدن السياحة، وكانت المبادرة من البحرين، تقدمنا بها في الإكسبو الثقافي الأول في الصين؛ فالثقافة لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وتعليمية لم يغفل صناع مستقبل العالم عن أهميتها، فلا بد أن يكون لدينا الوعي الكامل بأن هذا المشروع ونحن في جزيرة صغيرة غنية بهذا الإرث الثقافي من الممكن توظيفه لجذب سياحة ثقافية نوعية».
وفي هذا السياق ركزت على تجربة الصين بوصفها «غنية ورائدة» حسب تعبيرها، مشيرة إلى أنه «وفي أقل من عشر سنوات حققت تغيراً ملحوظاً في بعض المعالم والشوارع، وتميزت بجماليات الشوارع والمباني، كما تميزت باستقطابها لما يسمى (Icon Building)، فالكل يبحث عن التميز فيما يقدمه».
ومن الصين إلى البحرين قالت «لهذا أكرر دائماً أننا بحاجة لبعض المباني المميزة في البحرين، لتكون معلماً شاخصاً، فحين نذكر أوبرا سيدني تكون هي (Icon Building) في أستراليا، ونحن لدينا المسرح الوطني ولدينا المباني القديمة، كمبنى دار الحكومة القديم، وهو من أجمل المباني التي شيدت في فترة استقلال البحرين في بداية السبعينات. ولدينا أيضاً مشروع طموح لمقر دائم لمركز إقليمي ومتحف لموقع مستوطنة سار من تصميم تداو أندو، كل هذه المحاولات لوضع البحرين في المكان اللائق بها والدور الذي لعبته على مدى سنوات، فإننا نبني على ما تأسس وما قدمه الرعيل الأول، لأننا مطالبون أن نعطي قدر الإمكان، وفي الثقافة وسائلنا متعددة».
التبادل الثقافي الخليجي - الصيني
وعند سؤالها عن التبادل الثقافي من خلال الإنتاج الأدبي وترجمة المطبوعات من الصينية إلى العربية والعكس أجابت «نحن مقلون في ذلك، حتى في تعلم اللغة الصينية؛ وأذكر قبل خمس سنوات حين كان هناك اجتماع لوزراء الثقافة في الصين، فوجئت بأن المملكة العربية السعودية لديها أكثر من 3000 تلميذ يدرسون اللغة الصينية، ولم يكن هناك تلميذ واحد من البحرين، أما الآن فهناك عدد قليل وهذا يقودني إلى العتب على المسؤولين عن التعليم؛ فالفرص والمنح الدراسية لتعلم اللغة الصينية كثيرة، لكنها لم تحظَ باستجابة المسؤولين في التعليم، وهي دعوة لهؤلاء المسؤولين للتواصل مع الصين وابتعاث عدد من الطلبة لتعلم لغتهم، فهي اللغة القادمة، ومن الضروري تعلمها واكتسابها وإجادتها، وعلينا ألا ننسى أن اللغة مفتاح للتواصل مع العالم».
وألقينا مراسينا..
على جزيرة من نور لمعت في وجه الخليج العربي النقي، أخذتنا الشيخة مي بنت محمد آل خليفة في حلم ماتع آن له أن يتحقق؛ فمن واحة الثقافة المعمارية وتفردها، إلى المشتركات الثقافية الخليجية، ومن الأصالة والخصوصية الثقافية إلى الفهم الذكي للنصوص السامية، ومن رؤى صناع المستقبل إلى مفتاح اللغة.. ولم أكن أملك إزاء هذا كله أن أخفي انبهاراً اجتاحني في العمق الثقافي لها وإحاطتها بالإبداع الإنساني العالمي، وفي بلاغتها العالية التي جاوزت معها اللقاء كمهمة صحفية إلى اللقاء كشرف ومتعة واستزادة، حتى وصلنا إلى ضفة خليجية آمنة، ننشد من خلالها الوحدة، وتكريس الجهود، لإشعاع الثقافة الخليجية في العالم أجمع.
العناصر الأربعة التي تشكل نظام الكون في الطبيعة، يقابلها عناصر أربعة في المجمتع تشكل الحضارة، وهي العناصر التي أوردها (وول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة)، فحضارة الأمم أو المجتمعات نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي، من خلال (الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون). ويبدأ هذا الإنتاج الثقافي حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها، وهو ما اختصرته سورة قريش في 4 آيات قرآنية عميقة المعنى. والتواصل الحضاري يرسي الحضارات المختلفة عبر رؤية استراتيجية تنشد الإنسان، وتؤمن بحوار الحضارات وتواصلها باعتباره خياراً يؤدي بالإنسانية إلى الاستقرار. ولا يأتي التواصل إلا بعد مجموعة من الصراعات الفكرية والاقتصادية والاستراتيجية؛ وهذا ما حدث في الخيار الاستراتيجي الصيني الكبير في نزوحها نحو خلق طريق تواصل حضاري يتلبس الاقتصاد كمظهر رغم أنه مشروع حضاري متكامل تحت عنوان طريق الحرير الجديد.
أما الخليج العربي فإن ثمة محركات مختلفة تدفع بالعمل الثقافي إلى النهوض، ولعله الرسالة المثلى المبرهنة للعالم أجمع باستقرار المنطقة وعطائها ونمائها رغم أنف أي اضطراب أمني عارض إن وجد، وأن الخليج العربي واحة غناء تنعم بالأمن وعلى مستوى من الرقي في نظمها السياسية والاجتماعية، وأن التفاتتها للفن والثقافة ضرب من الاستدامة التي تعمل عليها في سبيل إعلاء هويتها وصورتها أمام العالم، فالثقافة لا يمكن فصلها على الإطلاق عن السياسة والاقتصاد والإعلام، فهي واحدة من مقومات الحضارة ورافد أساس لها. لهذا تأخذنا «الوطن» إلى ضفة خليجية استثنائية هذه المرة، للحديث عن واحة الثقافة وعبق الآثار في الخليج العربي، في تفاعلاتها الإيقاعية مع الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الخصوصية، وهي الجوانب التي طرقتها الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، في حديث ثقافي راقٍ خصت به «ضفاف الخليج».
الخليج منبر الثقافة العربية
استهلت الشيخة حديثها بأمنية أن يكون الخليج العربي المنبر الثقافي للعرب، معززة رأيها بالقول «هنالك عددٌ من المشاريع والبنى التحتية في دول الخليج، فلو تحدثنا عن أبوظبي مع تأسيس «اللوفر» وانطلاقة عدد كبير من المشاريع الأساسية في الكويت والبحرين -وهي سباقة في هذا المجال- وتحاول أن تجاري الوضع الحالي ببنى أساسية تحتية».
وأضافت إن «المسرح الذي دشن في المنامة باحتفالية المنامة عاصمة الثقافة العربية بدعم كريم من قبل جلالة الملك المفدى، أحد المراكز الثقافية الأساسية التي نؤمل أن تكون مصدر جذب لسياحة ثقافية نوعية، فإننا نحاول دائماً في دول الخليج أن يكون هناك توجه مشترك، وعلى مدى سنوات مع اجتماعات وزراء الثقافة كنت أحاول أن أطرح مشروعاً لو تحقق لكان رائداً ومنتجاً حقيقياً يفعل دور الاجتماعات، المشروع هو أن يكون في كل عامين أو كل أربعة أعوام مشروع في بلد خليجي يؤسس للبنية التحتية للثقافة، فإننا للأسف نكرس دائماً للاحتفالات والفعاليات واللقاءات، أما المباني فليس لها حظ من جدول أعمال وزراء الثقافة، ويحزنني أن تكون هناك اجتماعات دورية لا ينتج عنها مثل هذا المشروع الحيوي، وتكريس مفهومه بصورة حقيقية».
وأردفت أنه «نحن لا نقوم بالاجتماعات لكي نتبادل أطراف الحديث وإنما لكي نؤسس، والعمارة هي لغة الحضارة، لذلك نسعى أن تكون هناك مصادر إشعاع حضاري في دول مجلس التعاون».
وحول العمارة تحدثت عن «الإكسبو» «وهو مشاركة عالمية تجمع كل الدول، وجميل أن نتذكر أن مشاركة البحرين في إكسبو ميلان 2015 حصدت جائزة العمارة «الجائزة الفضية»، ونحن أول بلد خليجي يحصل على هذا النوع من الجوائز، إلى جانب تميزنا في العمارة، ونحاول أن نصل بهذا للمتلقي في العالم وليس المتلقي المحلي وحسب، فنحن نمد جسور التواصل مع العالم أجمع. لذا نجد مشاريعنا تتصدر أغلفة المجلات العالمية للعمارة، وفي الصيف الماضي كانت دار المحرق التي صممها المكتب البلجيكي العالمي OFFICE على غلاف مجلة «إل كروكي» الإسبانية وهي واحدة من أهم المجلات العالمية المتخصصة بالهندسة والعمارة».
وفي نظرة أكثر شمولية شخصت الوضع الحالي الذي تعيشه الأمة العربية، مشيرةً إلى «التراجع الذي تشهده عواصم عربية كبرى عن دورها الثقافي، إذ كان لبنان وما زال رائداً في هذا المجال، وبالرغم من المحاولات الفردية، إلا أنه ليس هنالك مساعٍ حكومية واضحة، فلبنان كان مصدر إلهام في الترجمة والأنشطة الثقافية وفي كل فروع الثقافة، إلا أننا نجد الأزمات تؤثر أول ما تؤثر على هذا الشأن، وكذلك مصر التي تعد أيضاً قلب العروبة النابض -ليس بالأفكار فقط- وإنما أيضاً بالمشاريع والأسماء والعمالقة للأسف تراجع دورها في هذا المجال»، واستدركت قائلة «هكذا هي ربما مسيرة الحياة.. تخبو مشاريع وتتقد أخرى».
وفي نظرة أخرى ألقتها على الخليج العربي أشارت إلى الدور الواضح والتوجه الكبير لدعم مشاريع الثقافة، فـ«أبوظبي بلد خليجي يكرس الثقافة عنواناً له، ربما دبي تألقت في المشاريع التجارية وفي استقطاب السياحة الترفيهية، ولكنها تتجه الآن أيضاً إلى الثقافة؛ فالثقافة في عصرنا الحاضر وسيلة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة التي تطالب بها الأمم المتحدة عبر 17 هدفاً لتحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030، ولكن إغفال هذا الجانب للأسف، يعرض شبابنا وأولادنا ومجتمعاتنا لتراجع الفكر وتضارب التوجهات، بدلاً من أن يكون الهم وطنياً وحافزاً على العطاء والإبداع، نتراجع ونعود عصوراً لمناقشة أمور تجاوزها الزمن، ونكرسها ربما لنغذي انطباعات وصورة ذهنية اختلّت لدى الآخر عن الشعوب العربية».
المحرق عاصمة للثقافة
ولفتت إلى أن الخليج العربي يعمل جاهداً على توظيف سلاح الثقافة بأجمل شكل، مشيرة إلى أن «المحرق ستكون عاصمة للثقافة الإسلامية 2018؛ ففي هذا العام نحاول أن نكرس مفهوم التنوير والفنون الإسلامية، ونحاول أن نرتقي بالصورة التي شُوهت لنربط الإسلام بالفنون وبالجمال، وستكون الآية الكريمة في سورة النحل (ولكم فيها جمالٌ) عنواناً لأنشطتنا».
واستطردت «نسعى للعودة إلى أصول الفهم الحديث، أو الفهم الذكي لمعانٍ سامية تجاوزها الكثيرون ولجؤوا إلى التحريم، وربما التراجع في كثير من المجالات»، معللة ذلك بقولها «نحزن ونحاول قدر الإمكان أن نحفز المتلقي، سواء في موضوع العام المقبل، أو موضوع هذا العام «آثارنا إن حكت»، للتوعية وربط المواطن بوطنه، وليس الفكر الشمولي الذي يتناسى الأوطان وينصرف إلى مفاهيم لا نتفق معه عليها».
ومن هنا عبرت عن الثقافة بـ«القوة الفاعلة»، التي من شأنها أن تثري المجتمعات وحضارتها، ووقفت على ذلك بقولها «من المهم أن توظف جزءاً هاماً من المجتمع وهو العمل الثقافي النوعي، الذي ربما أسيء فهمه واستخدامه وأعتقد أنه ترف لا لزوم له».
خليجنا واحد
وحول دعم الثقافة لقرار الاتحاد الخليجي، أفادت أن «الثقافة أساس قوي، أخذه البعض على أنه من مسلمات المشتركات في الخليج العربي، فلم يعد البعض يحسب له حساباً كمقوم من مقومات الاتحاد الخليجي، في حين أنه لو اختلت تلك المشتركات لما تحققت هذه الوحدة». وأردفت «جميل أن تكون البحرين هي من صممت شعار (خليجنا واحد)، الذي تكرس عنواناً لاجتماع وزراء ومدراء الثقافة والمختصين فيها».
وأضافت لقد «طلبت في اجتماع وزراء الثقافة بما أننا نعتمد شعار (خليجنا واحد) أن يكون هنالك جناح خاص للخليج العربي يجمع كل ما يميزه في إكسبو دبي 2020».
مدينة على طريق الحرير
ونظراً لما يشكله «طريق الحرير» المنطلق من الصين من أهمية بالغة في اقتصادات العالم، وما يلقي به من ظلال ذات أبعاد سياسية وعسكرية وكذلك ثقافية، كان لنا في هذا وقفة مع رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، التي قدمت للموضوع بقولها «كلنا يعلم أن الصين هي القوة الاقتصادية القادمة، وجميع الدراسات تؤكد أن النمو الاقتصادي وما نراه من أرقام ومشاريع هي المستقبل لهذا الكوكب بأكمله وعلينا ألا نغفل هذه القوة الاقتصادية، وأن يكون الخليج جزءاً من هذا المشروع المتكامل وأن نستثمر موقع دول الخليج كونها تقع ضمن محطات الرحلة التي بني عليها مشروع طريق الحرير، فالخليج أجمع يعد محطة هامة نحاول أن يكون لها حضور في هذا المسار التاريخي الاقتصادي المستقبلي، ولن نغيب عن طريق الحرير لأننا كنا جزءاً من هذا التواصل بين العالم».
واستطردت «واستثماراً لذلك المشروع الهام كانت مدينة «على طريق الحرير»، وهي فكرة لمحطة أو مدينة على طريق الحرير يحتفى بها كل عام، بحيث نطلق هذا المشروع وأن نحتفي بمدن طريق الحرير مثلما نحتفي بعواصم الثقافة ونحتفي بمدن السياحة، وكانت المبادرة من البحرين، تقدمنا بها في الإكسبو الثقافي الأول في الصين؛ فالثقافة لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وتعليمية لم يغفل صناع مستقبل العالم عن أهميتها، فلا بد أن يكون لدينا الوعي الكامل بأن هذا المشروع ونحن في جزيرة صغيرة غنية بهذا الإرث الثقافي من الممكن توظيفه لجذب سياحة ثقافية نوعية».
وفي هذا السياق ركزت على تجربة الصين بوصفها «غنية ورائدة» حسب تعبيرها، مشيرة إلى أنه «وفي أقل من عشر سنوات حققت تغيراً ملحوظاً في بعض المعالم والشوارع، وتميزت بجماليات الشوارع والمباني، كما تميزت باستقطابها لما يسمى (Icon Building)، فالكل يبحث عن التميز فيما يقدمه».
ومن الصين إلى البحرين قالت «لهذا أكرر دائماً أننا بحاجة لبعض المباني المميزة في البحرين، لتكون معلماً شاخصاً، فحين نذكر أوبرا سيدني تكون هي (Icon Building) في أستراليا، ونحن لدينا المسرح الوطني ولدينا المباني القديمة، كمبنى دار الحكومة القديم، وهو من أجمل المباني التي شيدت في فترة استقلال البحرين في بداية السبعينات. ولدينا أيضاً مشروع طموح لمقر دائم لمركز إقليمي ومتحف لموقع مستوطنة سار من تصميم تداو أندو، كل هذه المحاولات لوضع البحرين في المكان اللائق بها والدور الذي لعبته على مدى سنوات، فإننا نبني على ما تأسس وما قدمه الرعيل الأول، لأننا مطالبون أن نعطي قدر الإمكان، وفي الثقافة وسائلنا متعددة».
التبادل الثقافي الخليجي - الصيني
وعند سؤالها عن التبادل الثقافي من خلال الإنتاج الأدبي وترجمة المطبوعات من الصينية إلى العربية والعكس أجابت «نحن مقلون في ذلك، حتى في تعلم اللغة الصينية؛ وأذكر قبل خمس سنوات حين كان هناك اجتماع لوزراء الثقافة في الصين، فوجئت بأن المملكة العربية السعودية لديها أكثر من 3000 تلميذ يدرسون اللغة الصينية، ولم يكن هناك تلميذ واحد من البحرين، أما الآن فهناك عدد قليل وهذا يقودني إلى العتب على المسؤولين عن التعليم؛ فالفرص والمنح الدراسية لتعلم اللغة الصينية كثيرة، لكنها لم تحظَ باستجابة المسؤولين في التعليم، وهي دعوة لهؤلاء المسؤولين للتواصل مع الصين وابتعاث عدد من الطلبة لتعلم لغتهم، فهي اللغة القادمة، ومن الضروري تعلمها واكتسابها وإجادتها، وعلينا ألا ننسى أن اللغة مفتاح للتواصل مع العالم».
وألقينا مراسينا..
على جزيرة من نور لمعت في وجه الخليج العربي النقي، أخذتنا الشيخة مي بنت محمد آل خليفة في حلم ماتع آن له أن يتحقق؛ فمن واحة الثقافة المعمارية وتفردها، إلى المشتركات الثقافية الخليجية، ومن الأصالة والخصوصية الثقافية إلى الفهم الذكي للنصوص السامية، ومن رؤى صناع المستقبل إلى مفتاح اللغة.. ولم أكن أملك إزاء هذا كله أن أخفي انبهاراً اجتاحني في العمق الثقافي لها وإحاطتها بالإبداع الإنساني العالمي، وفي بلاغتها العالية التي جاوزت معها اللقاء كمهمة صحفية إلى اللقاء كشرف ومتعة واستزادة، حتى وصلنا إلى ضفة خليجية آمنة، ننشد من خلالها الوحدة، وتكريس الجهود، لإشعاع الثقافة الخليجية في العالم أجمع.