تقاس العلاقات بين القوى والأطراف أو ما يعرف بالفاعلين الدوليين بحجم المصالح المشتركة التي يمكن أن توجد بينها، ورغم قصر العمر النسبي للعلاقات الثنائية التي تربط بين مملكة البحرين وكازاخستان، لكن زيارة العاهل المفدى الأخيرة للعاصمة آستانة خلال الفترة من 13 إلى 15 إبريل الجاري أوجدت أسسا يمكن البناء عليها مستقبلا لتطوير معادلة التفاعل بين الدولتين الناميتين والنهوض بها، وخلقت أطرا مصلحية عميقة ومتعددة يعول عليها لقيادة قاطرة العلاقات المشتركة لآفاق أرحب وأوسع وبما يشمل مختلف المجالات، التقليدية منها والمستحدثة.التطلع لتطوير العلاقات.. دلائل وبراهين.قد يكون مهما هنا التأكيد على أن البلدين يتطلعان فعليا لتطوير علاقات الصداقة بينهما، والدليل على ذلك عدة أمور كشفت عنها الزيارة والفعاليات التي دارت خلالها، منها: الترحاب الذي قوبل به حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى ال خليفة العاهل المفدى والوفد الكبير المرافق له، ومباحثاته ومشاوراته الثنائية المكثفة مع الرئيس نازارباييف، ومصاحبته شخصيا في الجولات التي قام بها العاهل المفدى لبعض المحافل الكازاخستانية، والتي عكست التقدم الحضاري والنمو الشامل للدولة هناك..يضاف إلى ذلك زخم واتساع المباحثات الحكومية التي جرت بين مسؤولي وقادة قطاع الأعمال في الدولتين، والتي لم تقتصر بالطبع على المجالات السياسية البروتوكولية فحسب، وإنما شملت القطاعات الاقتصادية بالأساس، والتي يعول عليها كثيرا لفتح وقيادة قاطرة التعاون في المجالات الأخرى بين البلدين، علاوة على تناسق المواقف والرؤى وتناغم وجهات النظر التي أبداها قادة البلدين، وعكستها لقاءاتهما ناحية القضايا المختلفة ذات الاهتمام المشترك، خاصة المحلية منها، وفي مقدمتها احترام سيادة الدولتين وسلامة أراضيهما وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأخرى، بالإضافة بالطبع إلى محاربة الإرهاب ودعم الدولتين لموقف كل منهما في مواجهته..وقد تأكدت هذه المواقف الثابتة المشتركة أيضا بين الدولتين ناحية القضايا الإقليمية والدولية برمتها، سيما منها الحفاظ على الأمن الإقليمي في غرب ووسط القارة الآسيوية، والمعروف أن دائرة هذا الأمن دائرة واسعة تشمل العديد من الدول، منها المملكة وكازاخستان، ولا يمكن فصل جزء منها عن الأخرى، كما أن لكل من الدولتين دورهما وثقلهما الذي لا يمكن تجاهله سواء في منطقة الخليج أو آسيا الوسطى، كذلك الأمر ناحية حماية السلام الدولي وترسيخ مبادئ المساواة والشراكة والحوار في العلاقات الدولية، وإصرارهما أيضا على تذليل العقبات التي قد تعرقل مسار تطور ملف العلاقات الثنائية في المستقبل.بيد أن الدلالة الأكبر التي يمكن استخلاصها من فعاليات الزيارة والنتائج التي أسفرت عنها تتعلق بنقطتين بالغتي الأهمية، إحداها خاصة بالاتفاق المشترك على ضرورة إيجاد أطر تنسيقية محددة لتفعيل المشاورات والمفاوضات الثنائية في ملفات وقضايا التعاون المختلفة السياسية والاقتصادية والإنسانية، وهو ما تم بالفعل بالنظر للاتفاقات ومذكرات التعاون التي تم التوقيع عليها، والتي ستفتح بالتأكيد، مثلما أكد البيان الختامي المشترك الصادر عقب الزيارة، صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين مملكة البحرين وجمهورية كازاخستان، وستعطي دفعة قوية لتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية البينية وتعزيز التعاون في المجال الإنساني.والنقطة الأخرى تتعلق بالاتفاق على ضرورة استمرارية ومواصلة الحوار المشترك وتنسيق الجهود بين البلدين في إشارة ليس فقط لآلية المشاورات واللقاءات الثنائية التي يمكن أن تجري بين مسؤولي البلدين في أوقات لاحقة، وإنما من خلال المنظمات الإقليمية والدولية التي تَشُرف البلدان بالعضوية إليها كالأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي ومنتدى حوار التعاون الآسيوي وغيرها من المحافل ذات الصلة..وللتأكيد على هذا المعنى، يشار إلى أن الدولتين يمثلان بدورهما عضوين فاعلين في عدد من المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، التي يمكن أن تكون أداة إضافية لترسيخ وتمتين العلاقات الثنائية بالنظر لحجم المصالح والفرص المشتركة التي يمكن أن توجدها مثل هذه المنظمات، فالبلدان يمثلان بوابتين للخليج العربي ودول آسيا الوسطى لكل من البحرين وكازاخستان على التوالي بسوقهما الواسعة، والذي تحتاجه تجربة النمو الصاعد لكلتيهما..ولا شك أن هناك إمكانية كبيرة للاستفادة المشتركة من عضوية الدولتين لهذه المنظمات، مما سيفتح الباب واسعا لمزيد من الانفتاح على الكيانات الإقليمية المهمة التي تمثل الآن إحدى أهم أدوات التعاون الأمني والاقتصادي والسياسي الإقليمي كمجلس التعاون لدول الخليج العربية والجامعة العربية التي تنضوي تحت لوائها البحرين، ورابطة الدول المستقلة ومجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية ومنظمة شنغهاي للأمن بالنسبة لكازاخستان.المصالح المشتركة والتحرك ناحية المستقبل..في ضوء ذلك، يستطيع المراقب أن يضع يديه على عدة ملامح تبرز طبيعة المصالح المشتركة التي بلورتها وجسدتها فعاليات ومباحثات ونتائج الزيارة الملكية السامية، ويمكن تبيانها كالتالي:أولها: مواجهة التحديات الأمنية التي يفرضها العالم المعاصر، وهي مصلحة استراتيجية عليا تضج مضاجع الدول الآمنة كالبحرين وكازاخستان الساعيتين إلى دعم وتعزيز وحماية تجربة النمو الناهضة بهما، بل وتمس هذه التحديات أمنهما بطريق مباشر وغير مباشر في ظل التهديدات الناتجة عن ظهور شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود والمتاجرة بالسلاح والمخدرات والبشر، إضافة إلى تصاعد خطر جماعات التطرف والإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره..ولا يخفى أن امتداد هذه الشبكات والجماعات عبر الدول، سيما في القارة الأسيوية، ونجاحها في اختراق وتجاوز سيادات دول أخرى، والارتباطات فيما بينها فكريا وتنظيميا وتمويليا عبر مساحات واسعة من العالم، يفرض على الدولتين التكاتف معا لمواجهتها انطلاقا من سياساتهما المشتركة ناحية إقرار السلم والاستقرار ليس لدولهما فحسب، بل لمجموع الدول المحيطة بهما بالنظر لعضويتهما في عدد كبير من المنظمات الإقليمية التي ينظر لدورها الأمني بالتقدير ذاته الذي يحظى به دورها السياسي والاقتصادي والتنموي.يدعم هذا الموقف الثابت للبلدين اعتبارين، أحدهما: ثقل البلدين ومكانتهما سواء داخل مجلس التعاون الخليجي أو في مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا، الذي شددت عليه المملكة، وأثنت على دور كازاخستان في إطاره، بل ودعمت فكرة تحويله إلى منظمة دولية تتعامل مع القضايا والتحديات الأمنية في القارة الأسيوية، الاعتبار الآخر: ذلك التشابه، ولو النسبي، بين تجربتي البلدين السياسية والتنموية في ظل المخاطر التي يتعرضان لها، والتي تتشابه إلى حد كبير، وفي ظل انفتاح حدودهما وأسواقهما، وفي ظل سعيهما للارتقاء بمشروعهما النهضوي، وجلب مزيد من التدفقات الاستثمارية لبلادهما رغم العقبات التي تواجههما.ثانيها: الدور الحضاري الذي تقوم به الدولتان استنادا إلى إرثهما التاريخي والثقافي والديني، إذ تقدم البحرين نموذجا مهما في هذا الشأن سواء لبروزها كساحة للتعايش والتسامح بين أصحاب الديانات المختلفة، أو لمبادراتها في مجال رعاية واستضافة المؤتمرات والفعاليات التي تعنى بالحوار بين الثقافات والحضارات وأصحاب الأديان، وهنا لابد من الإشارة إلى أن المملكة وبرعاية كريمة من العاهل المفدى ستستضيف الشهر المقبل مؤتمر حوار الحضارات والثقافات، وهو الأمر ذاته بالنسبة لكازاخستان التي ترعى هي الأخرى مؤتمرا للحوار بين أصحاب الأديان العالمية والتقليدية.وللتدليل على هذا الدور الحضاري والثقافي والديني للدولتين يشار إلى أن المملكة لها تاريخها العربي والإسلامي العريق، وتوصف بقلب المنطقة النابض، وتعد كازاخستان بدورها من دول وسط آسيا الإسلامية المهمة ذات التراث القديم، وتقديرا من المملكة لهذا الدور، يشار إلى قيام جلالة العاهل المفدى بزيارة جامع حضرة سلطان في العاصمة أستانا الذي يتسع لـ12 ألف مصلي، ومشاهدته لواحد من أقدم المصاحف في العالم، فضلا عن زيارته لأكبر مؤسسة تعليمية هناك، كما يشار إلى اتفاق البلدين على تطوير التعاون في مجالات التعليم والعلوم والثقافة بين الجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية، وتسهيل تبادل البرامج للطلاب والمتخصصين، وتشجيع إقامة أيام ثقافية بحرينية في جمهورية كازاخستان وأيام ثقافية كازاخستانية في مملكة البحرين.ثالثها: المزايا التي يمكن أن يجنيها البلدان من تجربتهما الاقتصادية ونجاحهما التنموي، وهو ما يبرر سعي قادة البلدين في مباحثاتهما خلال الزيارة السامية إلى العمل من اجل توسيع آفاق التعاون التجاري والاقتصادي، ولهذا الغرض تم الاتفاق على إنشاء لجنة مشتركة تتولى تحديد القطاعات ذات الأولوية في الشراكة الاقتصادية بين البلدين وخلق الظروف المواتية لتحسين الاتصالات الثنائية بين أجهزة الدولة ومؤسساتها وكذلك بين القطاع الخاص في البلدين.ويبدو من المهم هنا التأكيد على أن اللجنة المشتركة المتفق عليها ستعمل من أجل تنظيم وتقنين وتأطير عملية التعاون المشترك بين البلدين، وذلك بالنظر للميزات الإنتاجية والتنافسية التي يمكن أن يوفرها كل طرف للآخر، فالبحرين تسطيع تزويد كازاخستان بتجربتها الناجحة في مجال الصيرفة الإسلامية وتطوير نظامها المصرفي وصناعة الألمونيوم بها، كما أنها قادرة على إمدادها بالبنية التنظيمية واللائحية وطبيعة الحوافز التي وفرتها وشجعت على استقدام رجال المال والأعمال إليها، كما تملك عدة مؤسسات صناعية كبيرة بحاجة إلى سوق لمنتجاتها كألبا وبابكو وأسري وغيرها، فضلا عن نجاحها في أن تشغل موقعا متقدما في المنطقة على صعيد تشغيل المناطق الحرة وعمليات النقل والمسائل اللوجستية وإعادة التصدير والشحن، وهو الأمر ذاته الذي يمكن أن توفره كازاخستان للمملكة، التي تعد أكبر تاسع دولة في العالم، وواحدة من اغنى دول آسيا الوسطى، حيث إن ريادتها في مجال زراعة الحبوب وإنتاج المواد الغذائية من الأمور التي حظيت بتقدير كبير من جانب العاهل المفدى خلال الزيارة، والذي أشاد بمبادرة الرئيس الكازاخستاني لإنشاء المنظمة الإسلامية للأمن الغذائي في إطار منظمة التعاون الإسلامي والتي سيكون مقرها في العاصمة أستانا، مؤكدا التزام المملكة بالانضمام إلى عضويتها، والمعروف أنه قد تم تحديد التعاون في المجال الزراعي باعتباره واحدا من الاتجاهات ذات الأولوية للشراكة بين البلدين.كذلك، فإن البحرين أبدت رغبتها للمشاركة في عدة فعاليات ستكون كازاخستان مقرا لها خلال الفترة المقبلة، منها مبادرة الرئيس الكازاخستاني لإقامة منتدى أستانا الاقتصادي السنوي، وأعمال المؤتمر العالمي لمكافحة الأزمات ومنصة المعلومات والاتصالات "جي جلوبل"، ومعرض اكسبو 2017، وهي كلها فعاليات تتوافق مع الاستراتيجية الحكومية البحرينية ورؤيتها التطويرية لمستقبلها، خاصة أن هذه الفعاليات توفر منصة مهمة للترويج للفرص التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني، وهو ما يضاف إلى الفرص التي يمكن أن تعود على تدفق الاستثمارات إلى المملكة، بالنظر إلى: تنظيم ملتقى الأعمال البحريني الكازاخستاني بحضور أكثر من 350 مشاركا من كبار المستثمرين ورجال الأعمال والمسئولين الحكوميين في الدولتين، ومبادرة إنشاء مجلس أعمال لأصحاب المشاريع المشتركة بين البلدين، ومذكرات التفاهم التي وقعت بين الجانبين البحريني والكازاخستاني، وبلغت سبعة اتفاقات شملت مختلف القطاعات والمجالات، والبدء في مفاوضات للتوقيع على اتفاقية النقل الجوي لتسهيل عمليات السفر والشحن والتصدير من وإلى البلدين، والعمل على إعفاء رعايا جمهورية كازاخستان من تأشيرة الزيارة المسبقة لدخول البحرين والحصول عليها بالمنافذ، وهو ما سيسهم جميعه بالتأكيد في ضخ دماء جديدة في شرايين العلاقات بين البلدين.
Bahrain
زيارة الملك لكازاخستان تؤسس لعلاقات متقدمة وتعاون أرحب
17 أبريل 2014