^   لو أجرينا استطلاعاً للرأي في أوساط العالم العربي أو توجهنا بسؤال عن الدولة الأقل شعبية والنموذج الأسوأ في السياسات الخارجية والممارسات المثيرة للحنق والكراهية، فلاشك أن هذه الدولة ستكون روسيا دون منازع أو منافسة من أي دولة أخرى بما فيها إسرائيل . السبب الرئيس في هذه «الكراهية» والاستياء الرسمي والشعبي العربي من الدولة الروسية هو الأزمة السورية، حيث كانت المواقف الروسية في مقدمة العوامل التي أطالت أمد الأزمة وأدخلتها طوراً غير مسبوق من العنف والقمع والتنكيل بالشعب السوري على أيدي بشار الاسد وأعوانه من الطغاة المتجبرين. واضح أن روسيا ضربت في كل الاتجاهات وحققت أهدافاً مختلفة وأرسلت رسائل متباينة على امتداد الأزمة السورية، ورغم أن الغالب فيها كان سلبياً ومعوقاً للحل إلا أنها حرصت أيضاً على تطعيم تلك الرسائل بأخرى إيجابية عبر بعض التصريحات المشجعة المنددة بالعنف الرسمي ومطالبة بشار الأسد بإدخال الإصلاحات اللازمة والزعم أنها لن تقف بجانبه في حال الحرب خلافاً لموقفها المعتمد وهو المساواة بين الجاني والضحية ومطالبة الجانبين النظام والمحتجين بالتوقف عن العنف وتأييد الحل السلمي ورفض التدخل العسكري . لم يبخل المحللون بتحليلاتهم ولا الخبراء بآرائهم لتفسير هذا الموقف الروسي في دعم نظام بشار الأسد والحديث عن الأسباب والأرباح العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية وصفقات السلاح التي تجنيها روسيا من هذا الاستبسال والدفاع حتى الرمق الأخير عن الحليف الشرق أوسطي الوحيد حاليا والامتيازات التي تحصل عليها جراء استمرار هذا النظام والخوف من فقدانها عند زواله وخاصة بعد أن فقدت معمر القذافي ونظامه . ورغم صحة كل هذه التفسيرات إلا أنها تظل عاجزة عن فهم أسباب هذه الاستماتة الروسية في الدفاع عن نظام مصيره السقوط لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً، وتدرك موسكو جيدًا هذا الأمر، فلا يمكن لدولة مهما أوتيت من قوة ونفوذ أن تقف ضد إرادة الشعوب أو تقاوم رغبتها الجارفة في التغيير حتى وإن طالت مقاومة الأنظمة وازداد عنفها وقمعها. للوهلة الأولى يبدو أن المواقف الروسية في الأزمة السورية تجسد غباءً سياسيًا حادًا، فهي من ناحية تتناقض مع توجهات روسيا كقوة عظمى تسعى لتوطيد علاقاتها من أكبر عدد ممكن من الدول وخاصة في الشرق الأوسط ذي الأهمية الاستراتيجية الفائقة ومحوريته في الصراع الدائر مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على الهيمنة والنفوذ العالمي، كما أنها من ناحية أخرى تفتقد النظرة المستقبلية ، حيث لا تسعى إلى توفير بدائل وخيارات تحقق المصالح الروسية في مرحلة سوريا ما بعد بشار الأسد وهي مرحلة تبقى على الأقل محتملة وقائمة . ولهذا، يبدو أن الموقف الروسي يسير عكس الاتجاه العربي والدولي في الأزمة السورية ولا يتفق مع سياسات دولة كبرى كانت يوماً أحد قطبين عالميين وما يفترض في قراراتها من رشادة وعقلانية وتحقيق المصالح الوطنية . إلا أن التمهل قليلاً في هذه المواقف الروسية وإمعان النظر في اسباب تصلب موسكو في الأزمة السورية قد يدفعنا إلى القول بأن روسيا كغيرها من دول العالم تسعى جاهدة لتحقيق مصالحها الآنية والمستقبلية والخروج من الأزمة السورية بأكبر المكاسب الممكنة وتقليل الخسائر إلى أقل حد ممكن . إن موسكو اختارت لنفسها أن تكون في مرمي الانتقادات الدولية وأن تبدو وكأنها العقبة التي تحول دون حل الأزمة السورية وإبعاد الأنظار عن باقي الأطراف الدولية وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية وصمتها المهين وعجزها المقصود عن التحرك الجدي للحل كما حصل في ليبيا . وهناك تفسيران لهذا الوضع ، الأول هو احتمال وجود تبادل وتوزيع للأدوار بين تلك الدول الكبرى بحيث تظل روسيا معوقاً للتدخل العسكري لعدم رغبة جميع تلك الدول في هذا الحل حتى الآن لأسباب مختلفة بين دولة وأخرى ، أما الثاني فهو أن روسيا تنتظر وربما تدفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى دفع «الثمن» اللازم لموافقتها على الحل العسكري والتدخل الدولي لإسقاط نظام بشار الأسد بعد أن اكتسبت روسيا وضعاً خاصاً وغدت مفتاح حل الازمة السورية المستعصية عن الحل حتى الآن . إن الجرأة الروسية في توجيه الانتقادات والاتهامات لدول عربية تقف مع الشعب السوري يثير الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام حول هذا السلوك، فهل روسيا باتت على وشك عقد تلك الصفقة التي تضمن لها موقعها المتميز وشراكتها المهمة مع الحليف السوري حتى بعد إسقاط بشار الأسد ، أم أن موسكو على قناعة بأن هذا النظام لن يسقط وأن استمراره بأي وسيلة كانت هي موضع اتفاق بين الدول الكبرى بما فيها روسيا؟. ففي حال ما تم عقد صفقة من النوع الأول أي من أجل إسقاط بشار الأسد ستحصل روسيا بلاشك على الضمانات والامتيازات التي تراها مناسبة وكافية من أجل تمرير قرار دولي يجيز التدخل العسكري في سوريا ، أما لو اتفقت الدول الكبرى على بقاء نظام بشار الأسد فستستمر روسيا في موقفها الرافض للتدخل العسكري إلى حين التوصل إلى تسوية تضمن ذلك