أكد صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل ضرورة توجه دول الخليج لملء الفراغ الاستراتيجي الذي تركته مصر بالمنطقة بعد غياب دورها، في ظل سعي إيران وإسرائيل وتركيا لملء هذا الفراغ على حساب مصلحة دول الخليج والعالم العربي، مشيراً إلى أن إيران تحاول التفريق بين دول مجلس التعاون وشق صفهم من خلال مغازلة البعض، فيما قال مستشار جلالة الملك للشؤون الدبلوماسية د. محمد عبد الغفار إن انسحاب أي دولة من تحت المظلة الخليجية ما عاد ممكنا لفداحة خسائره الاستراتيجية، إذ إن أي دولة من «التعاون» لن تتحمل تبعات انسحابها من تحت هذه المظلة.وقال الأمير الفيصل، خلال افتتاح أعمال مؤتمر «الأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون» تحت رعاية سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء إن «سياسات إيران العدائية هي المنغص الأول للأمن الإقليمي سواء أكانت هذه السياسات هدفها فرض الهيمنة السياسية أم التدخل في الشؤون الداخلية لبلداننا عبر تأجيج الفتن الطائفية ومحاولة تصديرها إلينا ام من خلال غموض نواياها بشأن خططها للمعرفة النووية وبالتالي امتلاك السلاح النووي أم من خلال احتلال الجزر الإماراتية أم بدعمها للحكم الطائفي في العراق أو تدخلها العسكري لدعم النظام السوري الإجرامي أو التدخل لتفتيت اليمن مذهبياً».وأضاف أن «كل المحاولات التى جرت خلال الـ 30 عاماً الماضية لترشيد سياسات إيران باءت بالفشل رغم أن دول الخليج لا تكن أي عداء لإيران ولا تريد لها أو لشعبها أي ضرر كجيران ومسلمين»، مشيراً إلى أن «الحفاظ على أمننا يدفعنا إلى العمل على إيجاد توازن معها بما في ذلك المعرفة النووية والاستعداد لأي احتمالات في الملف النووي الإيراني».وأكد أنه «حتى لو أقفل الملف النووي، فإن الملفات الأخرى العالقة مع إيران مهمة»، مشيراً إلى أن «التغيير في المنطقة والتدخل في شؤون دول الخليج الداخلية، وكبح جهود التنمية في دول المجلس لا يقل سوءاً عن امتلاكها للسلاح النووي، ومحاولة التفريق بين دول المجلس من خلال مغازلة البعض واضح وضوح الشمس».وقال إن «أخطر ما يواجه دول الخليج اليوم هو هذا الشرخ الجديد في العلاقات جراء تداعيات ما يشهده إقليمنا من توترات لا تأتي بالخير لدولنا ومجلسنا ولمستقبلنا الواحد».صيغة «الاتحاد الخليجي»وأشاد الأمير تركي الفيصل بـ«دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لتحقيق وحدة دول مجلس التعاون الخليجي كهدف استراتيجي مهم يضمن صيانة أمننا الوطني ويحصن أمننا الإقليمى ويساعدنا على تحقيق التوازن مع إيران».وأكد أن «علينا العودة بجدية إلى إيجاد الصيغة المناسبة للجميع للوصول إلى الاتحاد»، مشيراً إلى أن «على دول الخليج أن تكون يقظة لما يجري في المنطقة لمنع الدخول في مغامرات سياسية أو تحالفات تدخل العالم العربي في نزاعات».وأكد أن «النزيف في الشام يستوجب على دول الخليج إيقافه، في ظل استغلال الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، خصوصاً في غياب مصر وانشغالها بظروف مما يفتح الباب للقوى الإقليمية الصديقة مثل تركيا والطامعة مثل إيران، والعدوة مثل إسرائيل لتسعى لملء هذا الفراغ على حساب مصلحة دول الخليج والعالم العربي».وأضاف أن «أهم ما كشفته مجريات الأمور في المنطقة أن الأمن الوطني ليس عسكرياً فحسب لدرء المخاطر الخارجية بل هو أمن سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وإعلامي وأن الاعتماد على تثبيت القوة في الأمن الوطني ليس ضمانة كافية لتحقيقه، وعليه فإن الشرط الأول للحفاظ على أمن دول الخليج ومجتمعاتها هو زيادة تحصين هذه الدول من الداخل بسياسات تحافظ على علاقات سوية بين القيادات والشعوب». وأكد أن «ما افرزته الأحداث ومانراه من أحداثها وتداعياتها وظهور الاستقطاب الحاد للقوى السياسية والاجتماعية الجديدة الذي أفرزته التحولات السياسية وظهور النزاعات الغريزية المسيسة الدينية والطائفية والذهبية والإقليمية والقبلية هي أكبر تحدٍ يواجه دول مجلس التعاون ويهدد أمنها الوطني ما يعني اننا امام واقع مفتوح على كل الاحتمالات وتبعاً لذلك فإن «على دولنا وشعوبنا أن تدرك خطورة هذه المخططات وأن لا تسمح بالانزلاق إليه مهما كانت التحديات».وشدد على أن تفكيك المجتمعات على هذه الأسس هي آفة، ويجب كف جماح هذه القوى من مما تريد الوصول إليه، مشدداً على أن أمن دول الخليج هو مهم جداً نظراً لما تحمله المنطقة من أهمية اقتصادية ومالية وغيرها.وأضاف أنه في الوقت الذي ينبغي أن نعي فيه الاهتمام الدولي بمنطقتنا ودوافعه ينبغى لنا العمل بشكل حثيث على تقوية أواصر مجلس التعاون لمواجهة كافة التحديات وتفادي أسباب الفرقة لمواجهة كل الاحتمالات بما فيها احتمال تغير النظرة الغربية إلى أهمية هذه المنطقة.وأكد ضرورة العمل ضمن منظومة دول التعاون التي يجب أن تبقى مهما كانت التحديات التي تواجهنا، وتفادي كل أسباب الخصومة، لنكون جاهزين بأنفسنا لمواجهة كل الاحتمالات بما فيها تغير المنطقة، وتخاذل الأصدقاء والحلفاء.المالكي يقسم العراقوأشار الأمير الفيصل إلى أن «الوضع الداخلي في العراق غير المستقر يشكل تهديداً للأمن الإقليمي، إذ إن استمرار القيادة الطائفية والوضع غير المستقر الحالي ستقود العراق إلى التقسيم، واستمرار الولايات المتحدة بدعم المالكي يضمن تحقيق ذلك بأيدٍ عراقية». وتابع «إذا ما عاد المالكي إلى السلطة في الانتخابات العراقية، فلا أستبعد أن يتم تقسيم العراق، وأن مصلحتنا الخليجية هي في استعادة العراق، إلى أمته، وأن يكون عاملا على تحقيق الامن والاستقرار في الخليج، وعلينا أن نكون رصداً ودعماً لكل القوى العراقية الوطنية لمنع القوى الطائفية من قيادة العراق نحو التأزيم».وأكد أن عدم الاستقرار في اليمن يهدد أمن دول مجلس التعاون، وأن على دول المجلس عدم تجاهل ما يحدث، ويكونوا عوناً لليمن لتجاوز التحديات، حيث ضعف الدولة المركزية وراء ما تواجهه من مشاكل، وتقع على دول الخليج تعزيز سلطتها فوق كل جغرافية اليمن لاعادة الاستقرار له، واستيعاب الدولة اليمنية بشكل أو بآخر ضمن المنظومة.وحول المؤتمر أكد الأمير الفيصل أن «المؤتمر يتناول التحديات في هذه المنطقة في مرحلة دقيقة لدول مجلس التعاون الخليجي وكذلك بالنسبة لتوقيته»، مشيراً إلى أن «المؤتمر يأتى في ظل ما تشهده منطقتنا من انكشاف استراتيجي في أعلى مراحله على المستويين الوطني والإقليمي في الوقت الذي كان يجدر بنا بعد أكثر من 30 عاماً من تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن نكون قد وصلنا إلى أعلى درجات التنسيق والتعاون والوصول إلى مرحلة الاتحاد لضمان أمننا واستقرارنا ورفاهية شعوبنا في هذه المرحلة الصعبة».وشدد سموه على «أهمية البعد عن كل ما يعطل تحقيق أهداف دول مجلس التعاون وأهداف شعوبها وما يعطل مسيرتها ويهدد أمنها واستقرارها».الفلسطينيون الأكثر اضطهاداًوقال الأمير الفيصل إنه «منذ وعد بلفور لم يشهد شعب ظلماً كالشعب الفلسطيني طوال الـ 100 عام، ولن تتمتع دولة مثل تمتع إسرائيل بالرخصة في انتهاك الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مشيراً إلى أن على دول الخليج الاستمرار في دعم المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني.وأكد أن دول الخليج بقيادتها الحكيمة نجحت في الحفاظ على أمن الخليج، بالرغم ما واجهته من تحديات وما أدارته من أزمات وواصلت سياساتها التنموية وستبقى تنمو وتطور في ظل كل تلك التحديات المستقبلية.مفهوم استراتيجي شاملمن جهته، قال مستشار جلالة الملك للشؤون الدبلوماسية ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات» د. محمد عبدالغفار إن «تغير التحالفات كنتيجة للمستجدات والأحداث الإقليمية والدولية تستدعي من دول مجلس التعاون صياغة مفهوم استراتيجي شامل على غرار ما يفعله حلف الناتو كل عشر سنوات، وأن تكون ركيزتها بناء وتطوير سياسات حقيقية للدفاع المشترك قادرة على ردع التهديدات، والتعاون الخارجي ضمن مظلة خليجية واسعة لا تتبع بالضرورة الاستراتيجيات الدولية الكبرى، بل تتعاون معها».وأضاف أن «دول مجلس التعاون قطعت شوطاً كبيرًا في مجال تعزيز التعاون العسكري والأمني وفقاً لقمة الكويت 2009 وتعزيز العمل المشترك، إلا أن دول المجلس لم تتمكن حتى الآن من الاتفاق على المفهوم الاستراتيجي الذي يضع إطاراً لتحديد مفهوم القوة الموازنة والرادعة ضمن التفاعلات الإقليمية والدولية». وأشار د. عبدالغفار إلى أن «المشهد السياسي الراهن في المنطقة يبرز ثلاث قضايا هي أنه في زمن التحولات الكبرى تتأثر التحالفات الكبرى، وتبدأ بالتفكك بعض أو جميع عرى الروابط التي نسجتها ظروف زمن مختلف»، طارحاً تساؤلاً مفاده: «كيف ستتعامل دول المجلس مع تحالفاتها التي تضغط على التغيير والتحديث بمجتمعات لم تتطور كما ينبغي ببنيتها الاجتماعية؟، وفي ظل الأزمات الأخرى الحادة والملفات التي تواجهها دول المجلس مثل النووي الإيراني وتداعيات أزمة سوريا؟».ولفت عبدالغفار إلى أن «المراحل الفاصلة بتاريخ الأمم تأتي كنتيجة لتغيرات الأوضاع الراهنة وتؤثر على علاقات الدول»، مستعرضاً ما ذكره مارك سايكس الذي يعد من أكثر المسؤولين في حزب المحافظين البريطاني معرفة بالشؤون التركية والذي ارتبط اسمه باتفاقية «سايكس بيكو» في عام 1914 حينما قال: «إن انهيار الأمبراطورية العثمانية هو الخطوة الأولى لانهيار الأمبراطورية البريطانية».ورأى عبدالغفار أن مقولة سايكس لم تكن فكرة عابرة من قلق سياسي حريص على مصالح بلده، وإنما قناعة راسخة من الساسة البريطانيين الذين سبقوه لأجيال متعاقبة بأن الحفاظ على سلامة الأمبراطورية العثمانية أمر مهم كحاجز جيوسياسي لأمنها، لكن التغييرات الكبيرة بالحرب العالمية فرضت على بريطانيا أن تغير سياسة الحفاظ وسلامة الأراضي العثمانية على مدى 100 عام في مدة تقل عن 100 يوم.وأكد د. عبدالغفار أن دول مجلس التعاون عانت من الحروب التي هزت منطقتنا منذ الثمانينات وحتى احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، والذي زعزع أركان الاستقرار في العراق، ما تبعها من مهددات لأمن دول الخليج، منوهاً إلى أن كل ذلك التغيير يدفع لتساؤل حكومات الخليج حول حماية أمنها من التهديدات الخارجية حتى لا تنفذ الأيادي الخارجية التي لا تريد الخير لشعوب المنطقة.لا خيار إلا التعاضدوأكد عبدالغفار أنه لا خيار أمام دول الخليج كتنظيم إقليمي متجانس في نضوجه السياسي والتداخل المجتمعي وأواصر القربى سوى أن تعاضد بعضها بعضاً، ولم يعد الانفصال أو الانسحاب من هذا الكيان ممكناً لفداحة خسائره الاستراتيجية التي لا تستطيع تحمل تبعاتها الدول المنضوية تحت المظلة الخليجية.وأكد د. عبدالغفار أنه مع أهمية الحوار مع العالم من حولنا في عصر العولمة فإن الحوار الأهم في هذه المرحلة الفاصلة هو الحوار مع الذات الذي يتعين أن يبدأ بدراسة وتحليل المعوقات التي تمنعنا من التقدم بهذا التنظيم الإقليمي.