فاطمة عبدالله خليل:
عندما تنشد تحقيق الوعي العميق والتأثير الفاعل، فإنك تبحث عن العلم والكاريزما مجتمعين، ولم يكلفني ما أنشد كثيراً من البحث أو التفكير، فقد منحني الله حظاً وافراً بأن أكون على مقربة من أبرز المفكرين الكاريزميين في الخليج العربي. ولقاء اليوم تصدر قائمة الثراء المعرفي الذي حظت به "ضفاف الخليج" منذ ظهورها الأول، على نحو يليق بضيف "الضفاف" الذي لم يكن يفصلنا عنه سوى البحر، بينما كان ما يقربنا إليه أكثر من قارب أو جسر. ولأنه ممن لن أستطع الإيفاء بحقه مهما أطلت ذكره، فإن ضيفنا اليوم الرئيس المالك والمؤسس لمركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، الذي تطول سيرته الذاتية -وهي متوفرة في الفضاء السيبيري لمن أراد الاستزادة، إنه الدكتور فهد العرابي الحارثي.
البحث العلمي وسيلة طارئة
ومن حيث ما ينكب ضيفنا على عمله يومياً، وما يشكل فضاءً جديداً يستحق التفاتات متنوعة وجدية في التعاطي معه، انطلقنا في حديثنا حول مراكز الأبحاث في الخليج العربي، ليشير د.الحارثي في أول الأمر إلى أن هذه المراكز عندنا تعد وسيلة طارئة فلميكن هناك اهتمامات سابقة بها، معللاً أنه لطالما عمل "صانع القرار على اتخاذ قراراته لوحده أو مع مستشاريه المقربين منه، أما اللجوء إلى البحث العلمي من أجل تكوين أرضية صلبة للقرار القادم،فلم يكن ذلك وارداً في ثقافة صناع القرار عموماً في المنطقة العربية والخليج تحديداً". وأردف "الطريق الذي نسلكه اليوم جديد على التطور التنموي والسياسي والثقافي، وما زالت مراكز الأبحاث في المنطقة تجد صعوبة بالغة في تسويق نفسها وفي إقناع صانع القرار -سياسياً أو ثقافياً أو اقتصادياً- بأن من الضروري يكون قراره مستنداً إلى أرضية صلبة، هي أرضية البحث العلمي الدقيق ذو المنهجية الصارمة"، سرعان ما استدرك الحارثي بقوله "قد تكون الأوضاع في السنوات الثلاث الأخيرة أفضل من السابق؛ إذ بدأن نلحظ أن هناك وعياً جدياً بأهمية البحث العلمي ومراكز صناعة الأفكار، وبدا الاهتمام بهذا المجال أكثر وضوحاً؛ ربما لأننا اختبرنا الفوائد الجمة لاستشارة مراكز صناعة الأفكار ودعمها للقرار السياسي وصيانته من الخلل أو حتى أحياناً حمايته من الانهيار".
وأضاف الحارثي "مراكز الأبحاث في منطقة الخليج العربي، ليست كثيرة فيما أعلم، بل هي قليلة جداً مقارنة بالدول المتقدمة التي آمنت منذ وقت مبكر بأهمية وجود مثل هذه المراكز البحثية والاستشارية، فعلى سبيل المثال يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أكثر من 2000 مركز بحثي لصناعة الأفكار وهذا الصدد يخص المراكز الكبيرة المعروفة، أما المراكز الصغيرة فربما تفوق هذا العدد يكثر بينما في دول الخليج العربي لا أعتقد أن مراكز الأبحاث الحقيقية الجادة تتجاوز عدد أصابع اليدين في كل دول مجلس التعاون الخليجي، والعالم العربي كله يعاني من نفس المشكلة"، وفي هذا السياق دعا الحارثي إلى الأهمية البالغة للتركيز على هذا الجانب، معللاً أن العالم "ينتقل اليوم إلى مرحلة جديدة من مراحل صناعة التنمية وأعني ما يسمى بـ"الثورة الصناعية الرابعة" التي تعتمد بالدرجة الأولى على الابتكار والإبداع، وحينما نتحدث عن الابتكار والإبداع فمعنى ذلك أن نضعهما في سياقهما الصحيح بأن يدعم دائماً بالبحث العلمي الجاد، في المسائل المتعلقة بتنويع الاقتصاد وتعزيزه وخلق مجالات جديدة في ريادة الأعمال".
الشباب يحتشدون علماً
ولم يكتفِ الحارثي بالإشارة إلى دور مراكز الأبحاث في صناعة المستقبل الجديد، بل عرج على الدور القادم للجامعات، مشيراً إلى ذلك بقوله "سيكون هناك دور كبير جداً للبحث العلمي في إنعاش المستقبل، فضلاً عن الدور الهام الذي ستضطلع به الجامعات، إذا لا بد من انتقال جامعات الخليج والعالم العربي من إعداد التلاميذ للوظائف بعد التخرج، إلى مستوى آخر مفعم بالإبداع وهو كيف يستطيع التلميذ أن يخلق وظيفتهويصنع مستقبله"، وشرح العرابي فكرته قائلاً "اليوم هناك مرحلة جديدة من مراحل التنمية المستدامة، ففي هذه المرحلة "يخلق"الشاب وظيفته، بينما كان في السابق "يبحث" عن الوظيفة، وهذا الفكر شديد الحضور في كل بلاد العالم المتقدمة، ما مكن تلك الاقتصادات من تجاوز الكثير من أزماتها"، مؤكداً على أهمية التسلح بكل ما يتعلق بالبحث العلمي والابتكار والإبداع ليس في الجانب الاقتصادي وحسب، وإنما في العلوم الإنسانية والسياسة والثقافة والإعلام أيضاً.
وفي رحاب الحديث عن البحث العلمي والشباب استطرد الحارثي "التعويل على الشباب في البحث العلمي أصبح ضرورة بالغة؛ لكي يتمكنوا من الإسهام في خلق عالمهم الجديد في ظل الثورة الصناعية الرابعة؛ فالشباب هم وحدهم القادرون على أن يضعوا الأسس الحقيقية للمستقبل الذي يطمحون إليه" مشيراً إلى أن "البحث العلمي حينما يقاد من قبل الشباب سيكون له أهميته الخاصة، فهم الأقرب إلى مجالاتهم وفضاءاتهم التي يحتشدون علماً ومعرفةً من أجل بلوغها والوصول إليها"، ومجدداً عاد الحارثي للجامعات التي منحها دور اللاعب الأساسي في رسم صورة المستقبل وفي "تكوين جيل الشباب ودعمه لكي يصبح القائد الحقيقي للمستقبل، وخصوصاً المستقبل البحثي"، ولهذا طالب الحارثي جامعات العالم العربي والخليج أن"تنتقل من كونها مدرسة ثانوية متقدمة، إلى أن تكون مصنعاً لجيل يستطيع أن يُكوّن فكراً منظماً في ذاته، ويستطيع أيضاً أن يكون له حضور قوي في مجال الإبداع والابتكار".
"أسبار".. مشروعات خليجية
وبتسليط الضوء على "مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام" ودور في المشاريع الخليجية المشتركة، أفاد الحارثي أن "من أهم المشروعات التي أنجزها المركز على المستوى الخليجي،إعداد الاستراتيجية الإعلامية لدول مجلس التعاون الخليجي، التي كلف المركز بإعدادها، وقد قُدمت للمجلس الوزاري في مجلس التعاون الخليجي باسم المملكة العربية السعودية، وأقرت في قمة أبوظبي 2010"، وعقب على هذا بقوله "الاستراتيجية بحوزة مجلس التعاون منذ ذلك اليوم، ولا نعلم ما الذي حل بها، وإننا لنأمل ألا يكون مصيرها كمصير كثير من الاستراتيجيات والدراسات التي انتهت في أدراج الجهات المعنية بالتنفيذ".!!
وأشار الحارثي إلى أن للمركز "عدد من المنتجات؛ فهناك ملتقى أسبار، ومنتدى أسبار الدولي، ومركز أسبار للاستشارات، وكل واحدة من هذه النشاطات والفعاليات لها منتجات تتعرض لمسائل كثيرة متعلقة بالتنمية والمستقبل السياسي والثقافي في الخليج والمملكة العربية السعودية تحديداً". وبين أن ترتيب أو "تحديد الأولويات يتم في كل فعالية حسب ظروفها، فملتقى أسبار مثلاً، ينتمي إليه اليوم حوالي 70 مثقفاً وأكاديمياً ومفكراً سعودياً، وتلتقي هذه النخبة لطرح القضايا التنموية الاستراتيجية، ويدار هذا التجمع من خلال ورقة عمل رئيسة يعدها أحدهم ليعقب عليها اثنان آخران، ومن ثم يتناول بقية المفكرين والمثقفين الموضوع بالمناقشة والبحث".
ولفت إلى أن من السهل الرجوع إلى منتجات الملتقى من خلال الموقع الإليكتروني على الإنترنت، ومن خلال حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ تويتر وفيسبوك، وهناك تقرير شهري حول هذا النشاط"، مبيناً أنه بمقدور الجميع الاستفادة من هذا التقرير بشكل مباشر بمجرد تحميله، فضلاً عن أنه يرسل إلى كثير من صناع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية". ونوه إلى أن"الموقع الإلكتروني لمركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلاميقوم الدراسات التي عمل على تنفيذها بتكليف من الحكومة أحياناً أو من مؤسسات القطاع الخاص أحياناً المتحدثين الدوليين".
وحدثنا الحارثي عن مؤتمر أسبار الدولي، وهو "مؤتمر دولي سنوي ضخم ومشهود، يناقش قضايا المستقبل ويدعى له متحدثون من مختلف أنحاء العالم، ففي العام الماضي شارك أكثر من 50 متحدثاً من بينهم 15 دولياً أجنبياً من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأسبانيا وغيرها". مبيناً أن المؤتمر سيعقد هذا العام في نوفمبر المقبل، بمشاركة أكبر مما سبق،إذ ستشارك به نخب أكاديمية وسياسية وثقافيةمن الخليج العربي والدول العربية، فضلاً عن المتحدثين الدوليين.
وألقينا مراسينا..
غير أن الحديث مع د.فهد العرابي الحارثي لا يمكن له أن ينتهي بهذا الإيجاز، فكثير من القضايا ما زالت عالقة، ولكنها ملحة، ولن نتوانى من أن نستمر في الإبحار من خلالها مع الحارثي في الأسبوع المقبل؛ فالبحث العلمي عندما نتعاطاه كوسيلة، يصبح من المهم الوقوف على ما تحقق من ورائه، بما يجبرنا في "ضفاف الخليج" على سبر أغوار فكر تمرس على البحث مكوناً "أرضية صلبة" يستند إليها في أطروحاته المميزة، التي كانت في حد ذاتها مفاتيحاً ذهبية لمشاريع بحث تستحق التأمل والعمل الجاد، فإلى هنا.. نتفيئ ظلال التفكر بما مضى، للمضي قدماً في رحلة بحث وإبحار جديدة، نتوشح فيها مزيداً من الألق بحضور ضيفنا الكريم.