جعفر الديري: لايزال لأدوارد سعيد حضوره الواسع، رغم مرور 11 عاما على وفاته، باحدي مستشفيات نيويورك في صباح 25 سبتمبر 2003 عن عمر ناهز 67 عاما بعد صراع دام لـ 12 عشر عاماً. وفي كتابه "ادوارد سعيد مقالات وحوارات"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كتب المحرر لمقالات وحوارات الكتاب محمد شاهين يقول "ملايين الكلمات كتبت عن ادوارد سعيد بعد رحيله، وملايين البشر دخلوا موقع الانترنت يرثون غياب المفكر العظيم عن العالم. في احدى كلمات الرثاء هذه يقول السكرتير العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان: "ان رحيل ادوارد سعيد عن العالم يعني أن العالم العربي وأميركا سيصبحان أكثر فقرا اثر فقدانهما ادوارد سعيد المميز" وعدد كبير من الذين رثوه تساءلوا قائلين: كيف سيكون العالم بعد أن غادره هذا المفكر العالمي؟!". "يعزينا جميعا ان ادوارد سعيد ترك لنا نصا يجوب أرجاء المعمورة، حاملا راية الحق، متحديا مكان الباطل وزمانه". ويضيف شاهين: يقول مصطفى سعيد، في موسم الهجرة الى الشمال: "جئتكم غازيا"، أما ادوارد سعيد فيمكننا أن نتصوره وهو يقول للغرب: جئتكم قاضيا، أقضي بلغتكم ومن خلال ثقافتكم التي اتخذتم منها قناعا في نشر هيمنتكم على العالم". "وان النصوص التي يضمها هذا السفر - والكلام لايزال الى شاهين - هي مجرد شهادة من شهادات وكتابات لا حصر لها قدمها ادوارد سعيد للعالم. وتبين لنا المقالة الأولى التي نشرت العام 1972 التزام ادوارد سعيد المبكر بقضية أمته، وتبين لنا أيضا أن موهبته ولدت شامخة منذ البداية، ولو عقدنا مقارنة بين هذه المقالة وبين المقابلة التي أجريت معه قبيل وفاته لتبين لنا أن هذا الالتزام لم يكن بحاجة الى زمن ليشتد عوده، اذ إنه ولد ناضجا وواعيا بتعقيدات أعقد موقف في تاريخ العروبة والاسلام، وأنه - عبر سنوات - كان يشتد صلابة وقدرة على المقاومة الى آخر رمق في حياته".ذلك ما نقرأه في مقدمة الكتاب الجديد عن ادوارد سعيد وعن المقالات والحوارات التي أجريت معه في أوقات متفرقة. فعندما نطلع على المقالة الأولى التي جاءت بعنوان "التمنع والتجنب والتعرف" والتي ظهرت في مجلة "المواقف" البيروتية العام 1972 نجد ذلك التشبث الذي ميز ادوارد سعيد وهو تشبثه بالهوية العربية التي كانت ظروف حياته الخاصة تحجبه عنها؛ فقد أدت به تلك الظروف الى أن يتقن اللغات الأجنبية اتقانا متميزا من دون اتقان اللغة العربية على الوتيرة نفسها، حين سعى الى محاولة تدارك هذا الأمر، الا ان محاولته جاءت في سياق ظروف لم تمكنه من تحقيق أمنيته، فاستمر يكتب بالانجليزية مكتفيا بالترجمة العربية كبديل تمنى هو نفسه لو تخطاه مع أن هذا الواقع لم يؤثر فعليا في أفكاره الى العربية والى بقية لغات العالم قاطبة.أما المقالة الثانية التي نشرت في "المواقف" أيضا العام 1978 فكانت فصلا ثانيا من كتاب ادوارد سعيد "بدايات" فهي تنهض دليلا على أن مشروع هذا الكتاب كان في أجندته قبل ظهوره بأعوام. وبهذا تكون هذه المقالة وسابقتها أدلة على أن انجازات سعيد لا تتحدد بتاريخ نشرها. فقد تميز ادوارد سعيد منذ البداية كصاحب فكر جديد أصيل. ومن بين المنطلقات الرئيسية قي أصالة فكره هو العلاقة الخفية التي يسبر سعيد شفافيتها بين ما يمكن أن نسميه الثابت والمتحول، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، والقديم والجديد. ويشير شاهين الى أهمية مقالة سعيد "من الصمت الى الصمت ثم عودا على بدء في الموسيقى والأدب والتاريخ" بقوله إن مفهوم الصمت عند ادوارد سعيد يتخطى المفهوم المألوف، وهو صمت يدخل اليه سعيد مدخل صدق بليغ من خلال الموسيقى واللغة وما بينهما من تاريخ وأدب. بينما نجد في المقابلة التي تضمنها الكتاب والتي جرت مع سعيد في يوليو العام 1999 تأكيدا على ما في المقالات الثلاث السابقة الذكر، من أن صوت ادوارد سعيد - كما يؤكد هو نفسه لدى سؤاله عن الموضوع - لم يتغير بمعنى أن ثوابته لم تتزعزع قط وأن ممارسته على امتدادها وتنوعها هي محاولة مخلصة لايصال هذه الثوابت الى أكبر قطاع ممكن من البشر من دون التنازل عن حجمها أو عمقها أو جديتها ومن دون اللجوء الى تبسيطها كي لا يكون ذلك على حساب عمقها ووحدتها وشموليتها