دون أن يدري وعلى غير إرادته كتب القدر للرئيس المصري المؤقت عدلي منصور سجلاً من الأرقام سيدوّنها التاريخ باسمه, فهو أول رئيس لمصر من المحكمة الدستورية نظراً لغياب البرلمان، كما أنه أول رئيس يتولى الحكم قادماً من محراب العدالة وهو القضاء، بعد أن احتكر العسكريون المنصب عدا فترات قليلة تولاها أساتذة الجامعة، وهما كل من صوفي أبوطالب عقب حادث اغتيال السادات؛ نظراً لكونه رئيس البرلمان وقتها، إضافة إلى الرئيس المعزول محمد مرسي الذي أطاحت به ثورة شعبية في 30 يونيو من العام الماضي.ويُعتبر عدلي منصور أول رئيس في مصر ينتخب خليفته، كما أنه أول رئيس يخرج سالماً من المنصب ولم يغادره إلى القبر أو السجن، فقد جرى العرف في السابق أن يختار الرئيس نائباً له ويتولى النائب المنصب بعد رحيل الرئيس، كما حدث مع السادات ومبارك، أما مرسي فقد جاءت به صناديق الانتخابات، وكان مبارك في السجن ولا يزال، وبالتالي لم يصوّت له أو يختره، كذلك لم يشارك مرسي في التصويت في هذه الانتخابات لوجوده في السجن يُحاكم في عدة جرائم.مصير الرؤساء السابقين بعد رحيلهم من المنصب كان بائساً، فمحمد نجيب خرج من الرئاسة إلى السجن، وعبدالناصر رحل عن المنصب بالوفاة، والسادات بالاغتيال، ومبارك ومرسي بثورتين شعبيتين دفعت بهما إلى السجن والمحاكمة، أما الرئيس عدلي منصور فقد دوّن في بطاقة الاقتراع يوم الاثنين الماضي اسم مرشحه لرئاسة مصر وسيعود من الرئاسة إلى منصبه السابق في المحكمة الدستورية أو إلى منصب رفيع ينتظره.منصور يعتبر أول رئيس يجمع بين السلطات الثلاث "التنفيذية والتشريعية والقضائية"، بعد أن تولى رئاسة المحكمة الدستورية في 30 يونيو 2013، وبحكم منصبه الجديد تولى رئاسة الجمهورية بعد عدة أيام عندما تم عزل مرسي.فلسفته وأفكاره حول العدالةوُلد عدلي منصور في 23 ديسمبر عام 1945، وكان عضواً بالمحكمة الدستورية منذ عام 1992، ووصل لمنصب رئيس المحكمة الدستورية، التي تعد أعلى محكمة مصرية، في يوم مشهود انفجرت فيه الموجة الثانية للثورة الشعبية المصرية يوم 30 يونيو 2013 ليتولى منصب الرئيس المؤقت للدولة.قادته أقداره لتولي المسؤولية في وقت حاول فيه الإخوان وأنصارهم أن يبتزوا إرادة المصريين. وعن الفترة التي عاشتها مصر في ظل تسلّط جماعة الإخوان التي استخفت حتى بالمحكمة الدستورية، يقول الرئيس عدلي منصور للشاعر فاروق جويدة: "كانت فترة عصيبة عشناها معاً، كنا نجلس في المحكمة الدستورية العليا يوم 29 يونيو ونتساءل: هل يمكن أن تخرج مصر من هذه المحنة؟".وأبدى منصور شعوراً بالدهشة كما يقول حيال إمكانية أن يقدم أي شخص على التفريط في أمن وطنه مقابل "أي منصب في هذا العالم"، وتعجب كثيراً "كيف وصلت درجة الحقد والكراهية إلى تدمير وطن من أجل منصب مهما علا قدره".ويرى الرئيس منصور أن الإعلام "يحتاج إلى صحوة حقيقية، وأن يكون أكثر حرصاً على مصداقيته ولغة الحوار فيه"، لافتاً إلى أن "النخبة بحاجة للغة جديدة في السلوك والحوار والمراجعة"، مضيفاً في خواطر أفضى بها للشاعر فاروق جويدة ونشرها في جريدة "الأهرام" أن أخطر ما يدور في ذهنه بعد أن تستقر الأحوال "كيف نواجه السلبيات التي غيرت الشخصية المصرية؟".كما تساءل الرئيس عدلي منصور: "أين السينما المصرية ودروسها الأخلاقية في السلوك واللغة والحوار؟ أين الغناء المصري الراقي؟ أين رموز الثقافة والفكر؟"، وأضاف: "هذه هي ثروتنا الحقيقية والقوة الناعمة هي سر تفوق هذا الشعب، ولابد أن نستعيد هذا الدور ونسترد هذه المكانة مهما كان ثمن ذلك".وفيما يستعد لتسليم المسؤولية للرئيس المنتخب، يرى الرئيس عدلي منصور أن "علينا أن نبدأ بالإنسان المصري لأنه الجواد الرابح ولأنه السر في عبقرية هذا الوطن كما أشار جمال حمدان في كتابه شخصية مصر".مصير منصور بعد الرحيل من الرئاسةلكن ماذا عن مصير منصور بعد تسليم الراية للرئيس المنتخب؟ المصير سيكون العودة للمحكمة الدستورية حيث رغبته، لكن الرجل الذي أعاد لمنصب الرئيس هيبته وقوته وأعاد اكتشاف نفسه كرجل دولة من طراز فريد يرى المراقبون أنه يجب أن تستفيد الدولة منه في مواقع سياسية.البعض رشحه رئيساً للبرلمان القادم الذي يحتاج إلى لغة من الضبط والتوازن والسلوك البرلماني الأصيل بعد أن حول الفلول والإسلاميون البرلمان إلى ملعب وساحة يفصلون فيها القوانين التي تعزز بقاءهم وتدعم نفوذهم على حساب بقية الشعب. كما يحتاج المنصب لقانوني بارع ينظر للقانون من فلسفة العدالة ويطبقها بروحها ونصها معاً دون هوادة، فالمصريون ينتظرون الكثير من مؤسساتهم القادمة ولن يطيقوا صبراً التعرض لظلم أو تقصير أو إهمال أو حجباً لحقوقهم من جديد.عدلي منصور رجل ربما تسوقه الأقدار مجدداً ليحقق مفهومه الخاص بأن العدالة هي قلب وعقل وأساس نجاح أي نظام أو مجتمع في العالم.