رأينا في الأجزاء السابقة من هذا المقال كيف أن قرار ترامب بجعل القدس عاصمة موحدة لإسرائيل قد تم ضمن قواعد «لعبة الأفكار» التي تم الاعتياد على استخدامها بشكل متوال بعد الحرب العالمية الثانية لتقسيم وإضعاف أي منطقة تستهدفها المصالح الأمريكية ليتبين كيف كان لتلك اللعبة دور في تفكيك الاتحاد السوفييتي وفي فيتنام وكوريا وإلى أي مدى بدأت تقترب من منطقتنا بداية من الحرب العراقية الإيرانية ثم غزو صدام حسين للكويت وصولاً إلى «حماس» و«فتح» ليقعا في براثن الصراعات والانقسامات السياسية باعتبارها نقطة الارتكاز التي تم استخدامها لنصب الفخ للقوى الفلسطينية.
والحقيقة أنه على الرغم من إيجابيات اتفاقية أسلو كونها مهدت الطريق لحكم ذاتي فلسطيني على جزء من الأرض، إلا أنه استخدمت أكثر من نقطة في الاتفاقية كان من الطبيعي أن تخلق خلافاً من نوعيّة الخلاف الفكري الذي سبق الحديث عنه.. الأولى، كانت اعتبار المفاوضات هي الطريق الأوحد لرسم العلاقة بين فلسطين وإسرائيل، والثانية كون الاتفاقية مؤقتة، مما يجعلها عـرضـة للتغيير وإملاء الشروط من الطرف الإسرائيلي، أو التنصل مما لا تريده من تلك الاتفاقية في حين انه وبالرغم من تلك الشروط القاسية انسحبت إسرائيل فعليا من ست مدن عربية و400 قرية.. وهنا يكون الواقع ممهداً لتشبث كل فصيل فلسطيني برأيه.. وهو فخ لم تدركه كل من منظمة التحرير و«حماس» في التعامل مع قبول قراري مجلس الأمن 242 و338 ومع اتفاقية «أسلو» لاعتبار «حماس» أنه يلامس ثوابتها ومرتكزاتها الفكرية في حل الصراع، واعتبار «فتح» أنه خطوة إيجابية في ظل ما يفرضه الواقع وموازين القوى.. وهو ما أسهم في تحول الخلاف بين الفصيلين من الإطار التنافسي إلى صراع دموي حول آليات حل القضية، الأمر الذي استغله بنيامين نتنياهو في اتفاقية وادي عربة 1994 والتي كانت برعاية وشهادة أمريكية أيضا ليقوم بإحلال «مبدأ الأرض مقابل السلام»، بمبدأ «الأمن مقابل السلام» كأول خسارة تعرضت لها القضية نتيجة للانقسام.
ذلك الانقسام المعضل الذي لم يسمح لاتفاق «مكة» أن يصمد طويلاً، فاندلعت الاشتباكات المسلحة بين الحركتين في 2007، وانتهت بسيطرة «حماس» على القطاع، فحدث الانقسام المادي لأراضي الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية، وقطاع غزة، كما لم تكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 2008-2009 والتي تسببت بالعديد من المآسي الإنسانية، والأضرار المادية قادرة على إنهائه حيث فشلت مفاوضات الورقة المصرية في 2009 وحوارات دمشق في 2010، بل وتم تجميد إعلان الدوحة في 2012 واعتراض «حماس» على ما تم الاتفاق عليه في حوارات القاهرة في العام نفسه، وحتى عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر 2012 فقد استمر الخلاف، الأمر الذي أدى لإحباط الرأي العام الفلسطيني والعربي، لتدفع القدس نتاج هذا الخلاف ويكون الثمن غالياً هذه المرة.
لكي تكون اللعبة مكتملة ولتمهد لإعلان ذلك «القرار الترامبي» الخاص بالقدس، فقد بدأت أمريكا بنشر اللعبة على نطاق جغرافي يتسع شيئاً فشيئاً ليضعف كل المجاورين في المنطقة، حيث بدأت بالحلقة الأضعف وهي السودان، فقسمتها إلى نصفين، ثم تم التحضير للعبه الأكبر في عدد من الساحات في عالمنا العربي تحت مسمى «الربيع العربي»، الذي مورست فيه القواعد نفسها لبث الخلاف الفكري لتنهك الجميع أثناء الوصول للحظة الإعلان الحزين الخاص بالقدس.
إلا أن هناك ضرورة للانتباه إلى أن القدس ليست هي الهدف الأخير بل إنها محطة في طريق طويل من المكاسب الأمريكية، قد تسهم في تحقيقها خارطة جديدة للشرق الأوسط، والتي لن تخلو من إسرائيل بالطبع.. وبهذا عزيزي القارئ، ومن مراجعة التاريخ، فإن اللعبة أصبحت خطواتها واضحة بداية من غرس بذور الصراع مصحوبا بتقوية الجماعات المتعارضة من أجل اصطناع عدو وهمي، وهم على الحياد التام، يشاهدون بهدوء لتنشأ الأرضية الملائمة لتفجير الخلافات، فالنزاعات الفكرية، وتمهد الطريق لظهور نمط جديد من الصراعات، في خطوة ينتقل فيها الخلاف الفكري المصحوب بدعم مادي ومعنوي للطرف الأضعف إلى صراع مادي واقعي دام وليس لزاماً أن يكون الهدف تحقيق انتصارات لأي من أطراف لعبة الصراع، فالأهم هو المحافظة على استمرار الصراع وتصاعده المنظم ليتزايد ثقله وعبئه شيئاً فشيئاً اعتماداً على ما فرضه من ظروف قاسية مع استمرار الضغط الاقتصادي من ناحية والإعلامي من ناحية أخرى، وهو ما يكون له تأثيره على عناصر القوة العسكرية للمتصارعين وتؤدي إلى خلق حالة بلبلة عامة في جميع أجهزة الدولة بل وتشتيت الانتباه عن الهدف الخارجي المرجو الذي ينتظر اللحظة المناسبة حين ينهك الآخر نتيجة الصراع الداخلي الوهمي والذي ابتلينا به بعد «الربيع العبري»، والذي خلق لنا صراعاً «إسلامياً - إسلامياً» و«إسلامياً - ليبرالياً واشتراكياً» وأحياناً «إسلامياً - مسيحياً»، والهدف من كون الإسلامي متكرراً كطرف أساسي باعتباره مبرراً لصراع قوي لا فكاك منه لارتباط السياسي بالعقيدي وباعتباره هدفاً منطقياً بعد نظرية «صامويل هنتنغتون»، لصراع الحضارات.
والسؤال الآن، أليس علينا أن ندرك أن ثمن الإصرار على هذه الخلافات الفكرية والأيديولوجية هو ثمن فادح؟ وأننا نواجه صراعاً وهمياً يبعدنا بل ويقلص قدرتنا عن الهدف الأساسي الأسمى وهو الاتحاد من أجل بناء وتنمية وتطوير أوطاننا؟ وهل يمكن مع البناء المصحوب بدعم أركان قوتنا الوطنية أن نقع ضحايا لمثل هذه الألاعيب، أم أن ترك الجدل والخلاف والنقد والاندفاع نحو البناء والتطوير هو الآلية الأهم لنا الآن؟.. أترك لك الإجابة عزيزي القارئ.
* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد
والحقيقة أنه على الرغم من إيجابيات اتفاقية أسلو كونها مهدت الطريق لحكم ذاتي فلسطيني على جزء من الأرض، إلا أنه استخدمت أكثر من نقطة في الاتفاقية كان من الطبيعي أن تخلق خلافاً من نوعيّة الخلاف الفكري الذي سبق الحديث عنه.. الأولى، كانت اعتبار المفاوضات هي الطريق الأوحد لرسم العلاقة بين فلسطين وإسرائيل، والثانية كون الاتفاقية مؤقتة، مما يجعلها عـرضـة للتغيير وإملاء الشروط من الطرف الإسرائيلي، أو التنصل مما لا تريده من تلك الاتفاقية في حين انه وبالرغم من تلك الشروط القاسية انسحبت إسرائيل فعليا من ست مدن عربية و400 قرية.. وهنا يكون الواقع ممهداً لتشبث كل فصيل فلسطيني برأيه.. وهو فخ لم تدركه كل من منظمة التحرير و«حماس» في التعامل مع قبول قراري مجلس الأمن 242 و338 ومع اتفاقية «أسلو» لاعتبار «حماس» أنه يلامس ثوابتها ومرتكزاتها الفكرية في حل الصراع، واعتبار «فتح» أنه خطوة إيجابية في ظل ما يفرضه الواقع وموازين القوى.. وهو ما أسهم في تحول الخلاف بين الفصيلين من الإطار التنافسي إلى صراع دموي حول آليات حل القضية، الأمر الذي استغله بنيامين نتنياهو في اتفاقية وادي عربة 1994 والتي كانت برعاية وشهادة أمريكية أيضا ليقوم بإحلال «مبدأ الأرض مقابل السلام»، بمبدأ «الأمن مقابل السلام» كأول خسارة تعرضت لها القضية نتيجة للانقسام.
ذلك الانقسام المعضل الذي لم يسمح لاتفاق «مكة» أن يصمد طويلاً، فاندلعت الاشتباكات المسلحة بين الحركتين في 2007، وانتهت بسيطرة «حماس» على القطاع، فحدث الانقسام المادي لأراضي الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية، وقطاع غزة، كما لم تكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 2008-2009 والتي تسببت بالعديد من المآسي الإنسانية، والأضرار المادية قادرة على إنهائه حيث فشلت مفاوضات الورقة المصرية في 2009 وحوارات دمشق في 2010، بل وتم تجميد إعلان الدوحة في 2012 واعتراض «حماس» على ما تم الاتفاق عليه في حوارات القاهرة في العام نفسه، وحتى عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر 2012 فقد استمر الخلاف، الأمر الذي أدى لإحباط الرأي العام الفلسطيني والعربي، لتدفع القدس نتاج هذا الخلاف ويكون الثمن غالياً هذه المرة.
لكي تكون اللعبة مكتملة ولتمهد لإعلان ذلك «القرار الترامبي» الخاص بالقدس، فقد بدأت أمريكا بنشر اللعبة على نطاق جغرافي يتسع شيئاً فشيئاً ليضعف كل المجاورين في المنطقة، حيث بدأت بالحلقة الأضعف وهي السودان، فقسمتها إلى نصفين، ثم تم التحضير للعبه الأكبر في عدد من الساحات في عالمنا العربي تحت مسمى «الربيع العربي»، الذي مورست فيه القواعد نفسها لبث الخلاف الفكري لتنهك الجميع أثناء الوصول للحظة الإعلان الحزين الخاص بالقدس.
إلا أن هناك ضرورة للانتباه إلى أن القدس ليست هي الهدف الأخير بل إنها محطة في طريق طويل من المكاسب الأمريكية، قد تسهم في تحقيقها خارطة جديدة للشرق الأوسط، والتي لن تخلو من إسرائيل بالطبع.. وبهذا عزيزي القارئ، ومن مراجعة التاريخ، فإن اللعبة أصبحت خطواتها واضحة بداية من غرس بذور الصراع مصحوبا بتقوية الجماعات المتعارضة من أجل اصطناع عدو وهمي، وهم على الحياد التام، يشاهدون بهدوء لتنشأ الأرضية الملائمة لتفجير الخلافات، فالنزاعات الفكرية، وتمهد الطريق لظهور نمط جديد من الصراعات، في خطوة ينتقل فيها الخلاف الفكري المصحوب بدعم مادي ومعنوي للطرف الأضعف إلى صراع مادي واقعي دام وليس لزاماً أن يكون الهدف تحقيق انتصارات لأي من أطراف لعبة الصراع، فالأهم هو المحافظة على استمرار الصراع وتصاعده المنظم ليتزايد ثقله وعبئه شيئاً فشيئاً اعتماداً على ما فرضه من ظروف قاسية مع استمرار الضغط الاقتصادي من ناحية والإعلامي من ناحية أخرى، وهو ما يكون له تأثيره على عناصر القوة العسكرية للمتصارعين وتؤدي إلى خلق حالة بلبلة عامة في جميع أجهزة الدولة بل وتشتيت الانتباه عن الهدف الخارجي المرجو الذي ينتظر اللحظة المناسبة حين ينهك الآخر نتيجة الصراع الداخلي الوهمي والذي ابتلينا به بعد «الربيع العبري»، والذي خلق لنا صراعاً «إسلامياً - إسلامياً» و«إسلامياً - ليبرالياً واشتراكياً» وأحياناً «إسلامياً - مسيحياً»، والهدف من كون الإسلامي متكرراً كطرف أساسي باعتباره مبرراً لصراع قوي لا فكاك منه لارتباط السياسي بالعقيدي وباعتباره هدفاً منطقياً بعد نظرية «صامويل هنتنغتون»، لصراع الحضارات.
والسؤال الآن، أليس علينا أن ندرك أن ثمن الإصرار على هذه الخلافات الفكرية والأيديولوجية هو ثمن فادح؟ وأننا نواجه صراعاً وهمياً يبعدنا بل ويقلص قدرتنا عن الهدف الأساسي الأسمى وهو الاتحاد من أجل بناء وتنمية وتطوير أوطاننا؟ وهل يمكن مع البناء المصحوب بدعم أركان قوتنا الوطنية أن نقع ضحايا لمثل هذه الألاعيب، أم أن ترك الجدل والخلاف والنقد والاندفاع نحو البناء والتطوير هو الآلية الأهم لنا الآن؟.. أترك لك الإجابة عزيزي القارئ.
* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد