الرأي

ابكِ حين تحتاج البكاء

متى بكيت آخر مرة؟ بالتأكيد سيكون ردة فعلك استنكار هذا السؤال المشؤوم. فليس منا من يحب البكاء ليسجله ضمن مذكراته، وليس منا من يحب استحضار لحظات الحزن والألم التي امتزجت بالدموع.

علاقتنا نحن البشر بالبكاء علاقة ألم ونشيج وتقطع شغاف الروح. قلة هم الذين يعبرون عن فرحهم بالبكاء. ويصعب علينا أن نفهم كيف يفكك البكاء مقراته في جزر الأحزان ليعيد تموضعه في لحظات السعادة الفارقة! كيف تحتل الدمعة المالحة مكان الضحكة العذبة فتشرق عيوننا بالسعادة؟! تلك أحجية لن تجيب عنها غير قصص البكاء التي تصير متحكمة ببرمجة النفس على نحو يخرجها عن سيطرتنا.

كثيرا ما بكينا حزناً وقهراً ووجعاً. بكينا أمام من نحب فرداً أو مجموعة لنشكو حزننا وطلباً في المشاركة والتماساً في التخفيف عنا. وحين عزّ من يستحق أن يشاهد وجوهنا تتشرخ بالدموع بكينا في عزلة. ربما ألجأتنا قسوة الحياة، مرة، لأن نبكي أمام أحدهم طلباً للعطف. ربما شفعت لنا الدموع مرة، وربما شعرنا أننا نجلس على كرسي المتشفى به مرات.

في مجتمعنا... علمونا ألا نبكي، فالبكاء طفل هش بداخلنا عليه أن يكبر معنا، ثم يتلاشى. علمونا أن البكاء للنساء فقط. فتعلم رجالنا القسوة والغِلظة وكبت مشاعر الضعف الطبيعي وافتعال الجلد المبتذل. ثم علمونا أن البكاء انكسار للمرأة لا يجدي بعده لملمة زجاجها المتناثر. فأي جمال في مزهرية جُمعت أشلاؤها بالصمغ؟! حتى النساء هجرن البكاء، فأصبن الاكتئاب والاضطراب والتعبير غير المتزن عن انفعال فجائي أشبه بالانفجار! آبار من الدموع الجوفية تسكن أعماقنا وتكاد تثور كالبركان التائق لأعيننا التي استبدلت الدموع بقطرات ترطيب الجفاف. نحن لم نعد نبكي لأننا سعداء، ولأن حياتنا قد صفت من كل هم وألم وكرب، نحن لم ننقطع عن البكاء لأن الحياة وهبتنا كل ما رغبنا فيه وطمحنا إليه. نحن فقط نقاوم البكاء بكل قوانا العاطفية. وتمكنا من بناء جدار عازل لا تخترقه الدموع إلا حين تتصدع بعض زواياه بفعل رياح المعاناة العاتية التي تذيب الحجارة.

أحيانا.. أحسد الذين يجيدون البكاء دون تردد أو تفكير. لاحظت أنهم لا يبكون فقط. إنهم دائماً ما يعبرون عن انفعالاتهم بالغضب والضحك والصراخ أو حتى الرقص. إنهم متصالحون مع ذواتهم بصورة مذهلة، يواجهون بها المجتمع والمحيطين بهم بإثبات عالٍ لأنفسهم.

وأظن أن علينا أن نستعيد دموعنا وأن نستسلم للبكاء حين يطرق أبواب وجداننا. فمشاعرنا التي تسربلت بدروع من حديد قد تعبت وتحتاج أن ترتدي أقمصة من حرير تشف عن انفعالاتها وتكشف مكبوتاتها.