بقلم: الدكتور محمد علي بن الشيخ منصور الستري
قبل أيام معدودات رَحلَ عنا إلى بارئه سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. رجلٌ ظلل بأعماله النيرة وأخلاقه الخيرة كل بقعة ومجال كان له فيهما حضور وموطئ، فحقّ له كل هذه المكانة العالية التي نالها في حياته، وكل هذا الحبّ المتلفعِ بالحزَنِ والأسى الذي أفاضت به الجموع الكبيرة المشيعة له إلى دار القرار، رحل فقيدا سعيدا بعد أن عاش مودودًا حميدًا.
حين يمسكُ المرء اليراعَ راثيا شخصا بمقام سمو الشيخ عبدالله بن خالد لا يجد من بدٍّ إلا أن يبدأ بأبرز ملمحٍ في شخصه وهو الحكمة. فقد كان الراحل حكيما أحكمته التجارب. فالرجلُ لا يكون حكيما حتى يكون ذلك في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته كما يقال، وهو ما كان عليه الراحل إذ أصاب الحكمة في القول والعمل والصحبة، لذلك كانت مجاورته تعني واحة تسمع منها وترى فيها وتميرُ من نبع حكمتها في مختلف القضايا، بل وفي طريقة تعاطيه الحصيف مع التاريخ وأحداثه وصروف الدهر ونوازله.
هذه الحكمة هي التي مكنته لأن يعرِكَ شؤونا مهمة في الدولة والمجتمع والحياة منذ شبابه اليافع حين تولى القضاء بمحاكم البحرين بمراتب مختلفة. ثم توالت عليه أعمال الدولة في كل اتجاه بلا كللٍ ولا سأم في رئاسة بلدية الرفاع والمنامة، ومجلس التخطيط والتنسيق وتولي وزارة الزراعة والبلديات ووزارة العدل والشؤون الإسلامية والنيابة عن رئاسة مجلس الوزراء، وأخيرًا تأسيس ورئاسة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومهام أخرى كثيرة يصعب حصرها هنا كان فيها نعم العون للقيادة الرشيدة.
لقد ربطتني بالراحل طيب الله ثراه علاقة وثيقة منذ أن كان سموه دائم الصلة بوالدي الشيخ منصور بن الشيخ محمد الستري قدس الله نفسه، والذي كانت تربطه به الأهداف المشتركة وتجمعه به الزيارات الأخوية المتوالية والمتبادلة، والجلسات الطوال التي تناقش فيها شؤون الدِّين والمجتمع والقضاء في البحرين. وهو ما جعل علاقتي بسمو الراحل المغفور له تتجاوز العلاقة الرسمية إلى علاقة الابن بأبيه الملازم له.
واكبتُ عمله الدؤوب لإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في الـ 22 من شهر أبريل عام 1996م بموجب مرسوم أميري رقم (19) لسنة 1996م أصدره أمير البلاد الراحل المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيّب الله ثراه. كان الراحل إزاء ذلك مؤمنًا إيمانًا راسخا بأن الشأن الديني يجب أن ينبع من هوية البحرين الأصيلة يمثل أعضاءه ثقافة وتركيبة البلد الاجتماعية. وقد كرّس جهده لأن يرتقي هذا المجلس ويتطوّر ويأخذ مكانته المرموقة إلى حيث صار الآن بهيئته الحالية.
وقد تشرّفت بالعمل إلى جانبه لمدة ستة عشر عاما نائبا لرئاسة سموّه للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فكان خير معين وملهمٍ في كيفية التعاطي مع القضايا والولوج إليها. لذلك كان ظلاً للجميع حين كرّس جلّ وقته في خدمة بيوت الله والمعاهد والحوزات العلمية من دون تفرقة بين الطوائف والمذاهب، وهو ما جعله أبا للجميع. وعلى الرغم من كثرة مشاغله وتقدّم السنين به، إلاّ أن الله يشهد كيف أن الراحل كان دائم العمل والمتابعة وبجدّ يعجز الكثيرون عن القيام به. وهو يعكس دَيدَنا شبّ عليه الراحل منذ أن دخل معترك العمل التنفيذي والاجتماعي في الدولة.
كذلك كنتُ شاهدًا على رئاسته للجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني الذي صدر بتشكيلها أمرٌ سامٍ في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر عام 2000م والتي كنتُ عضوًا فيها. فخلال اجتماعات اللجنة كان الراحل يتمتع فيها برأيٍ سديدٍ أينعتهُ الممارسة وصقلته التجارب، ومحاورًا ضليعا بالقوانين والتشريعات تنمّ عن شخص عليم، وعلى دراية تامة بمفاصل الأمور ومآلاتها وكأنه يمسكُ الخيط من منتهاه، ومنفتحا على جميع الآراء، لا يجد غضاضة في الاستماع إلى أيّ رأي يصله من الأعضاء، إلى أن انتهت اللجنة من إعداد المشروع ورفعه إلى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه في الـ 23 من شهر ديسمبر عام 2000م.
وخلال مشاركتي في مجلس أمناء مركز عيسى الثقافي، شهدت للراحل همّه الدائم للارتقاء بعمل المركز، وتحويله إلى شعلة تشجع وتدعم الإبداعات الفكرية والثقافية على الصعيد الوطني كما كان يقول.
وقد توّج سمو الشيخ الراحل كل ذلك الإنجاز بأن كان عَلَمًا في التواضع وهو بتلك المنزلة الرفيعة والقَدر الجليل والفضائل الوفيرة. أجل هذا هو سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة كما عرفته.. رجلٌ كريم الأخلاق، زكي الأعراق، صاحب يدٍ بيضاء تنمّ عن شهامة ومروة وكرم، لم يُوصد بابه قط، إذ كان مكتبه ومجلسه وبيته قِبلة يقصدها طالبو التوجيه والنصح والمشورة وأصحاب الحاجات فكان الجميع يأنس بحديثه وبسعة قلبه وبأبوّته وظله. رحمك الله أيها الراحل الكبير، وبوّأك مقعد صدقٍ في الجنة.
* مستشار جلالة الملك المفدى لشؤون السلطة التشريعية
قبل أيام معدودات رَحلَ عنا إلى بارئه سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. رجلٌ ظلل بأعماله النيرة وأخلاقه الخيرة كل بقعة ومجال كان له فيهما حضور وموطئ، فحقّ له كل هذه المكانة العالية التي نالها في حياته، وكل هذا الحبّ المتلفعِ بالحزَنِ والأسى الذي أفاضت به الجموع الكبيرة المشيعة له إلى دار القرار، رحل فقيدا سعيدا بعد أن عاش مودودًا حميدًا.
حين يمسكُ المرء اليراعَ راثيا شخصا بمقام سمو الشيخ عبدالله بن خالد لا يجد من بدٍّ إلا أن يبدأ بأبرز ملمحٍ في شخصه وهو الحكمة. فقد كان الراحل حكيما أحكمته التجارب. فالرجلُ لا يكون حكيما حتى يكون ذلك في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته كما يقال، وهو ما كان عليه الراحل إذ أصاب الحكمة في القول والعمل والصحبة، لذلك كانت مجاورته تعني واحة تسمع منها وترى فيها وتميرُ من نبع حكمتها في مختلف القضايا، بل وفي طريقة تعاطيه الحصيف مع التاريخ وأحداثه وصروف الدهر ونوازله.
هذه الحكمة هي التي مكنته لأن يعرِكَ شؤونا مهمة في الدولة والمجتمع والحياة منذ شبابه اليافع حين تولى القضاء بمحاكم البحرين بمراتب مختلفة. ثم توالت عليه أعمال الدولة في كل اتجاه بلا كللٍ ولا سأم في رئاسة بلدية الرفاع والمنامة، ومجلس التخطيط والتنسيق وتولي وزارة الزراعة والبلديات ووزارة العدل والشؤون الإسلامية والنيابة عن رئاسة مجلس الوزراء، وأخيرًا تأسيس ورئاسة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومهام أخرى كثيرة يصعب حصرها هنا كان فيها نعم العون للقيادة الرشيدة.
لقد ربطتني بالراحل طيب الله ثراه علاقة وثيقة منذ أن كان سموه دائم الصلة بوالدي الشيخ منصور بن الشيخ محمد الستري قدس الله نفسه، والذي كانت تربطه به الأهداف المشتركة وتجمعه به الزيارات الأخوية المتوالية والمتبادلة، والجلسات الطوال التي تناقش فيها شؤون الدِّين والمجتمع والقضاء في البحرين. وهو ما جعل علاقتي بسمو الراحل المغفور له تتجاوز العلاقة الرسمية إلى علاقة الابن بأبيه الملازم له.
واكبتُ عمله الدؤوب لإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في الـ 22 من شهر أبريل عام 1996م بموجب مرسوم أميري رقم (19) لسنة 1996م أصدره أمير البلاد الراحل المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيّب الله ثراه. كان الراحل إزاء ذلك مؤمنًا إيمانًا راسخا بأن الشأن الديني يجب أن ينبع من هوية البحرين الأصيلة يمثل أعضاءه ثقافة وتركيبة البلد الاجتماعية. وقد كرّس جهده لأن يرتقي هذا المجلس ويتطوّر ويأخذ مكانته المرموقة إلى حيث صار الآن بهيئته الحالية.
وقد تشرّفت بالعمل إلى جانبه لمدة ستة عشر عاما نائبا لرئاسة سموّه للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فكان خير معين وملهمٍ في كيفية التعاطي مع القضايا والولوج إليها. لذلك كان ظلاً للجميع حين كرّس جلّ وقته في خدمة بيوت الله والمعاهد والحوزات العلمية من دون تفرقة بين الطوائف والمذاهب، وهو ما جعله أبا للجميع. وعلى الرغم من كثرة مشاغله وتقدّم السنين به، إلاّ أن الله يشهد كيف أن الراحل كان دائم العمل والمتابعة وبجدّ يعجز الكثيرون عن القيام به. وهو يعكس دَيدَنا شبّ عليه الراحل منذ أن دخل معترك العمل التنفيذي والاجتماعي في الدولة.
كذلك كنتُ شاهدًا على رئاسته للجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني الذي صدر بتشكيلها أمرٌ سامٍ في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر عام 2000م والتي كنتُ عضوًا فيها. فخلال اجتماعات اللجنة كان الراحل يتمتع فيها برأيٍ سديدٍ أينعتهُ الممارسة وصقلته التجارب، ومحاورًا ضليعا بالقوانين والتشريعات تنمّ عن شخص عليم، وعلى دراية تامة بمفاصل الأمور ومآلاتها وكأنه يمسكُ الخيط من منتهاه، ومنفتحا على جميع الآراء، لا يجد غضاضة في الاستماع إلى أيّ رأي يصله من الأعضاء، إلى أن انتهت اللجنة من إعداد المشروع ورفعه إلى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه في الـ 23 من شهر ديسمبر عام 2000م.
وخلال مشاركتي في مجلس أمناء مركز عيسى الثقافي، شهدت للراحل همّه الدائم للارتقاء بعمل المركز، وتحويله إلى شعلة تشجع وتدعم الإبداعات الفكرية والثقافية على الصعيد الوطني كما كان يقول.
وقد توّج سمو الشيخ الراحل كل ذلك الإنجاز بأن كان عَلَمًا في التواضع وهو بتلك المنزلة الرفيعة والقَدر الجليل والفضائل الوفيرة. أجل هذا هو سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة كما عرفته.. رجلٌ كريم الأخلاق، زكي الأعراق، صاحب يدٍ بيضاء تنمّ عن شهامة ومروة وكرم، لم يُوصد بابه قط، إذ كان مكتبه ومجلسه وبيته قِبلة يقصدها طالبو التوجيه والنصح والمشورة وأصحاب الحاجات فكان الجميع يأنس بحديثه وبسعة قلبه وبأبوّته وظله. رحمك الله أيها الراحل الكبير، وبوّأك مقعد صدقٍ في الجنة.
* مستشار جلالة الملك المفدى لشؤون السلطة التشريعية