فرض الواقع الجديد على نظام التقاعد في مملكة البحرين مجموعة من التحديات التي باتت مواجهتها يتطلب إصلاحات لتلك الصناديق تضمن استدامتها من جهة، والحرص على حقوق المتقاعدين وعدم المساس بها من جهة أخرى، لذلك جاءت اللجنة الحكومية البرلمانية المشتركة المعنية ببحث قانوني التقاعد من أجل تحقيق هذين الهدفين الرئيسين في مملكة البحرين.

هذه اللجنة وضعت نصب أعينها تنفيذ التوجيهات الملكية السامية ، والرؤية الثاقبة من صاحب السمو الملكي الامير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء ، لرؤى ومنهج والآلية التي تتطلع إليها الحكومة بالتعاون مع مجلسي الشورى والنواب بما يضمن المصلحة العامة ومصلحة المشتركين والمتقاعدين، من خلال التباحث في مجموعة من الأفكار والرؤى الهادفة لجعل الصناديق التقاعدية متوازية وقادرة على الوفاء لها قادرة تجاه المتقاعدين حاضراً ومستقبلا.

وعلى الرغم من اختلاف فلسفة وآليات أنظمة التقاعد المتبعة في العديد من الدول، لكنها في مجملها تخضع للتقييم والمراجعة كل عدة سنوات وبما يتواكب مع الظروف والمستجدات التي تشهدها التطورات المختلفة الحادثة، وبحيث تضمن توحيد مزايا ومنافع التأمين التي يتلقاها المنتفعون، والاستفادة بالتالي من خبرات الكوادر الوطنية المتراكمة وبما يحول دون تقاعدهم المبكر.

ومملكة البحرين ليست في معزل عن هذه المتغيرات، فبرغم أن الإنفاق على المزايا التأمينية الحالية للمتقاعدين والمستفيدين فاق الإيرادات المحصلة من اشتراكات المؤمن عليهم، وهي المصدر الرئيسي للتمويل في كل أنظمة وصناديق التقاعد العالمية، فإن هناك حاجة لحماية أصول وموارد صناديق التأمينات، وإعادة التوازن بين ما يدفعه المشتركون ومجمل خدمات التأمين المقدمة لهم.

وتستند الرؤية الحكومية لإصلاح أنظمة التقاعد على العديد من الركائز، أولها: ضرورة الحفاظ على استدامة موارد الصناديق التأمينية وحماية أصولها، وبما يضمن إيصال المكتسبات والامتيازات التقاعدية التي يتمتع بها المشتركون وعدم توقفها.

وفي الحقيقة ان هناك عوامل تدفع إلى هذا الأمر، فإضافة إلى الحرص والسعي في مسيرة نجاح نظام التأمين الاجتماعي في البلاد، والذي خدم على مدار 4 عقود مئات الآلاف من المشتركين، حيث أُسس في منتصف سبعينيات القرن الماضي، واستمر حتى الآن دون انقطاع، الا أن أنظمة التقاعد تخدم حاليا عددا كبيرا من المستفيدين، وهو عدد لا يقل عن 219 ألفا منهم نحو 72 ألفا من المستحقين والمتقاعدين، فضلا عن المشتركين أنفسهم، وهم متقاعدو المستقبل، الذين يزيدون عن 146 ألفا.

القلق هنا، وبحسب المعادلة الاقتصادية المعروفة التي تربط بين الربح والخسارة، أن اشتراكات المنتفعين بالنظام في البحرين لا تقدم الحد الأدنى من تمويل الخدمات التأمينية المقدمة لهم، وقد اضطرت الدولة ومازالت تقدم مصروفات تأمينية من مواردها، وليس من قيمة الاشتراكات المحصلة أو إيرادات هذه الاشتراكات الاستثمارية، وذلك في سبيل كفالة الحياة الكريمة للمستحقين وذويهم، وهو ما أفقد ميزانية المملكة ما يعرف بقيمة الفرصة الضائعة، حيث كان من الأوْلى توجيه هذه المصروفات لبرامج تنموية وخدمية كالصحة والإسكان.

وتبرز في هذا الشأن عدة حقائق، فمع وصول متوسط العمر المتوقع للمواطنين إلى أكثر من 76 عاما بسبب جودة الخدمات الصحية، وبسبب نمو الشريحة العمرية التي تزيد عن 65 عاما، حيث تقدر بـ 2.4 % من مجموع السكان، وبلوغ نسبة المسنين (ما يزيد عن 60 عاما) إلى 6.3 % عام 2007، ويتوقع ارتفاعها لتصل إلى 14.2 % و24.3 % عامي 2025 و2050 على التوالي، نتيجة لكل هذه المتغيرات زادت متوسطات مصروفات التأمينات الاجتماعية خلال الفترة من 2013 إلى 2017 إلى نحو 66 %، في حين أن قيمة إيراداتها سواء المحصلة من الاشتراكات أو من خلال الاستثمارات لا تتجاوز 16 %.

ثانيا: أن أنظمة التقاعد في أكثر دول العالم تقدما تشهد تطورات معينة كل فترة تفرضها الدراسات الاكتوارية المعنية بتقييم الأثر الاقتصادي للخطر وعدم اليقين في المستقبل، وهو ما يفسر سعي هذه الدول إما لزيادة قيمة الاشتراكات التأمينية، وإحداث التوازن بين مدة الخدمة أو سن العمل وبين المستحقات التأمينية المحصلة (فرنسا 26 عاما)، أو لرفع سن التقاعد لديها (فرنسا 62 عاما، إيطاليا 61 عاما، بريطانيا إسبانيا ألمانيا 65 عاما، الولايات المتحدة 67 عاما، وستصبح 68 عاما في بريطانيا عام 2046، و67 عاما في ألمانيا عام 2029).

والملاحظ هنا أن كثيرا من تلك الدول تفرض شروطا أكثر ومعايير عالية الدقة ويجب الالتزام والتقيد بها للحصول على معاش تقاعدي كامل، وتصل مدد العمل التي يُستحق عليها المنافع التأمينية في المتوسط في العديد من الدول إلى نحو 30 سنة عمل، إن لم يكن أكثر، حسب بعض التقارير التي أشارت إلى أنها 36 عاما في إيطاليا و35 عاما في إسبانيا وألمانيا و41.5 عاما في فرنسا عام 2023 و45 عاما في ألمانيا عام 2029.

وبطبيعة الحال، وكما هو معروف، فإن أنظمة التقاعد في هذه الدول تقدم لمستحقيها مزايا تأمينية أكثر كلما كان العامل أو الموظف قادرا على العطاء حتى 70 عاما، وذلك تشجيعا لهم على الادخار من جهة، وللاستفادة بخبراتهم ومهاراتهم من ناحية ثانية، وللحد من عملية الخروج المبكر وغير المبرر الذي يسعى إليه البعض لظروف مختلفة، وتقل بالتالي المزايا التأمينية والمستحقات التعاقدية بحسب سن الخروج إلى التقاعد، خاصة إذا لم يستكمل العامل أو الموظف مدد خدمة العمل المطلوبة.

ثالثا: سرعة التوصل إلى حلول جوهرية للتحديات التي تواجه أنظمة التقاعد الوطنية، وبما يضمن عدم التأثير على المزايا التأمينية المنتفع بها سواء للأجيال الحالية أو القادمة، والدافع وراء ذلك التحرك عدة أمور مهمة، منها: الظروف الاقتصادية الراهنة، والتي لم تتأثر بها البحرين وحدها، وإنما دول العالم كافة، ويستطيع الجميع أن يلمسها، وذلك نتيجة لتغيرات الأسواق المالية العالمية، وبخاصة النفط، والذي أدى ضمن ما أدى إلى ارتفاع الدين العام، فضلا عن انخفاض العوائد على الاستثمار، وتقلص حجم التدفقات الاستثمارية، وزيادة أعباء الخدمات المقدمة، بما فيها أسعار خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية وما شابه.

ولذلك، وبناء على صدور التوجيه السامي لحضرة صاحب الجلالة الملك المفدى حفظه الله بضرورة التوافق بإعادة بحث قانوني التقاعد، قدمت اللجنة الحكومية عدة مقترحات بهدف إحداث الإصلاحات المطلوبة في مالية صناديق التأمين، وبما يضمن عدم الإضرار بمكتسبات المتقاعدين ولا المشتركين وتوحيد المزايا التأمينية والمساواة فيما بينها وتنمية موارد صناديق التقاعد وحماية أصولها لتبقى للأجيال القادمة ومعالجة أي خلل في الأداء المالي أو الإداري لها.

وقد استلهمت المقترحات المقدمة والجاري التوافق حولها تجارب الدول المختلفة، مثلما أشير سلفا، ومن أبرزها: المساواة بين الموظفين كافة دون تفريق بين نائب أو وزير أو غيرهم، والعمل على الاستفادة من خبرات الكوادر الوطنية برفع سن التقاعد، وللحد من الخروج المبكر، التدرج في زيادة نسب الاشتراكات، لا سيما مع تدنيها، وبما يراعي الخدمات المقدمة للمستفيدين وجودة مستواها، ضم فئات وشرائح جديدة لدعم اشتراكات الصناديق، سيما من الأجانب العاملين في القطاع الخاص (503.791 موظفا) والحكومة (19.310 موظف)، هذا فضلا عن ربط المستحقات والمزايا التأمينية بعدد سنوات العمل أو مدة الخدمة الفعلية، خاصة أنها لا تزيد عن 15 عاما، وضخ دماء جديدة في شرايين الأذرع الاستثمارية لصناديق التقاعد، وغيرها.

ويشار إلى أن حجم الامتيازات التقاعدية المقدمة للمشتركين لن يتغير أو يتأثر كثيرا بحسب المقترحات الحكومية التي يجري البحث فيها للتوافق حولها مع أعضاء السلطة التشريعية، وذلك بحسب التوجيهات السامية لجلالة الملك المفدى حفظه الله.

ويبدو من المهم التأكيد على أمرين، الأول: أن عملية التقييم والمراجعة لأية أوضاع "أيا ما كانت" ضرورة تفرضها الحاجة والمستجدات المتغيرة بحكم الزمن وتفاعلاته، ومن ثم فإن سد بعض الثغرات القانونية ومعالجة الفجوات الإدارية والمالية التي فاقمت من وضع صناديق التأمينات خلال السنوات الماضية بحاجة إلى إعادة نظر وقراءة، وهو ما تحاول المقترحات الحكومية المقدمة القيام به، سيما أن دراسات تقييم المخاطر تتطلب إضافة إلى الحسم والفورية في اتخاذ القرارات إعادة النظر في أنظمة التقاعد كل 3 سنوات على الأقل.

والأمر الثاني يتعلق بمستوى الأداء المالي للأذرع الاستثمارية لصناديق التقاعد، وهل يتسم بالكفاءة والفاعلية؟ والحقيقة الاقتصادية تقتضي الإشارة في البداية إلى أن عوائد استثمارات الصناديق لا يجب أن تسهم في تمويل أنظمة التأمين إلا بالقدر الذي يعالج النقص والقصور فيها، فالمزايا التأمينية التي يحصلها المشتركون ينبغي أن تُمول بشكل رئيسي من الاشتراكات دون غيرها، أما عوائد الاستثمار باعتبارها أصولا ثابتة يجب استدامة حمايتها وعدم هدرها واستمرار تنميتها فيقتصر دورها فحسب على سد العجز إن وجد.

ومن المهم التأكيد وبحسب تقييم دور الرقابة والإشراف والتدقيق، ومنها مكاتب محاسبة خارجية وعالمية، فإن مستوى الأداء الاستثماري للصناديق يعد جيدا، ويقارب إن لم يكن يفوق المقاييس العالمية، حيث يلاحظ أن قيمة شركة أصول ذراع التأمينات الاستثمارية بنهاية عام 2017 تزيد عن 3 ملايين دينار بحريني بعوائد تقدر بـ 272 مليون دينار، وتوجد نسبة 60 % من استثماراتها داخل المملكة، وتتوزع البقية بين بعض دول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

كما أن الشركة التي تخضع في إدارتها لنخبة من الكوادر الوطنية الحاصلة على شهادات دولية في المحاسبة وإدارة الأصول وتقييم المخاطر والتحليل المالي وتتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية، يُراقب أداؤها سنويا من قبل البنك المركزي وديوان الرقابة ومدقق خارجي، إضافة لوزارة المالية نفسها، واستطاعت خلال الفترة من 2013 إلى 2017 إدارة 61 استثمارا بقيمة 1.515 مليون دينار بحريني بلغ صافي عوائدها 310 مليون دينار بمعدل عائد داخلي يصل إلى 7 % ، وهو معدل يفوق المتوسط العالمي رغم العمر النسبي القصير للشركة، حيث يعود تاريخ إنشائها إلى عام 2012 فقط.