^ سألني الصديق مستغرباً: أراك توقفت عن الكتابة عن الأزمة بالرغم من استمرارها؟ قلت: لقد قلنا كل ما يمكن أن يقال، ولم يعد هنالك ما يمكن أن أقوله شخصياً في هذا الصدد، فالكاتب لا يملك غير رأيه الذي يعتقد أنه حر، يقذف به وسط السجال الدائر، فهو ليس بسياسي يخوض معركة إلى النهاية، إنه صاحب رأي أو يعتقد أنه كذلك على الأقل، وقد كانت خلاصة ما كتبت في عدة مقالات أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر وأن استمراره انتحار للجميع، ولذلك لا مناص من الحوار الوطني ومن المصالحة الوطنية لطي ملف الأحداث لفتح باب الأمل من جديد واستعادة حركة الإصلاح السياسي بوتيرة أسرع، وهذا يقتضي اتصاف الجميع بالحكمة والرشاد والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة للوصول إلى حلول وسطى وإلى معالجة مرحلية للقضايا الشائكة والمختلف بشأنها، لا بد من اللقاء عند منتصف الطريق، وما عدا ذلك تضييع للوقت وتأخير لفرص التعافي، وتعزيز لمواقف المتشددين والمتطرفين على مختلف الجبهات، وفي سياق هذه الرؤية الوطنية للإصلاح والتجاوز والمصالحة، انتقدنا الجميع بلا استثناء عندما كان الأمر يقتضي الانتقاد، وخصوصاً تلك النزعات الإقصائية والعدمية والانتحارية. قال: وهل أن التوقف عن الكتابة تعبير عن حالة من اليأس والإحباط من الوضع الذي وصلنا إليه؟ قلت: بلا شك أن تواصل الأزمة بشكلها الراهن يدفع إلى نوع من الإحباط، ولكن ليس إلى اليأس.. وإن كان الأول مقدمة للثاني، ولكن الأمل مايزال قائماً طالما أن هنالك عقلاء في هذا البلد الطيب وأن هنالك مخلصين يدركون أنه لا حل إلا بالحوار والتلاقي عند نقطة سواء تجمع الجميع، على اختلاف مشاربهم، فالمحبط حقيقة هو الإصرار على المزايدة وعلى العناد والوقوف عند نفس النقطة، وكأن مياه النهر لم تجر يوماً، والمحبط أن هنالك من لا يقوى على العيش إلا في الأزمات ويعمل على تأجيجها على حساب الغالبية العظمى من الناس، فطالما الأزمة مستمرة تجده مستمتعاً متألقاً يشحذ أسنانه ولسانه، أخشى ما يخشاه أن يتوافق الفرقاء، وأكثر ما يخيفه «انتهاء الأزمة على خير». قال: لماذا يتحدث الجميع عن الحوار، ولكن هذا الحوار لا يتحقق؟ قلت: من الواضح أن الحوار يتطلب وجود طرفين أو أكثر يمتلكان نفس القناعة بأهمية هذا الحوار ونفس الشجاعة والاستعداد للوصول إلى حلول وسط يتوافقون عليها، وهذا يقتضي شجاعة في اتخاذ القرار ورؤية وقدرة على التنازل، وبدون ذلك لا يمكن أن يكون هنالك أي حوار، حتى ولو كان على نطاق اجتماعي ضيق داخل الأسرة الواحدة، فما بالك بين الفرقاء السياسيين المشحونين بفعل أفاعيل الأزمة التي تزداد تعقيداً على الصعيد السياسي، وكأنما كل واحد يراهن على أن يرهق الثاني فقط، وهو رهان خاطئ وغير مجدٍ. قال: نحن في المجتمع لم نتدرب على الحوار العادي، ولذلك نجد صعوبة في الحوار السياسي. قلت: إن آلية التحاور آلية حضارية للنقاش، وتبادل الآراء، والأفكار وهي مقوم من مقومات التعايش فمن يستمع إلى الطرف الآخر يبدي استعداده للتفاعل معه أو للتعقيب عليه بما يفرز جملة من المبادرات والمقترحات التي بإمكانها أن تتحول إلى قرارات عملية طالما أن السلطة مصغية لأبنائها ومهتمة بهم وبشؤونهم. كما يكتسي الحوار أهمية أخرى قد لا ينتبه إليها الكثيرون، فالحوار يدرب على التعبير المسؤول الذي يكتسبه الفرد شيئاً فشيئاً، لكنه سرعان ما ينضج كما إن الشخص الذي يتكلم بكل المقاييس هو أقل خطورة من الشخص الصامت، فالصامتون لغز يعسر فك شفرته وإذا ما تكلموا فكوا العزلة التي ضربوها على أنفسهم وأفصحوا عن ميولهم ومواقعهم ليعرفها الناس بما ييسّر عملية التواصل معهم، ولا شك أن الأفكار العظيمة تحقق أحياناً المعجزات، فهي كالبذرة الخصبة تعطي ما يغني ويشبع.
لم يعد هناك ما يقال!
15 أبريل 2012