عمود رئيس التحرير يوسف البنخليل "الإسلام السياسي في الخليج العربي: مرحلة ما بعد فك الشيفرة" أثار نقاطاً عدة حول مرحلة ما بعد موجة الإسلام السياسي التي عايشناها لعقود من الزمن وحالياً تشهد انكماشاً وتراجعاً شديدين بعد أن تم كشف أوراقها في العام 2011 كما وضح. وأبرز ما ذكره العمود أن هناك حالة من الفراغ خلفها هذا التراجع قد لا تحتاج إلى استبدال من قبل قوى سياسية أخرى مثل ما يحصل في العادة.
وفعلاً قد لا نكون بحاجة إلى استبدال فكر بفكر آخر ولكن هل نستطيع أن نقنع الآخرين بذلك؟
لا يوجد الآن في المجتمعات الخليجية من يعدها بمستقبل خيالي ولا جنة في الأرض أو "يوتوبيا" الفلاسفة. لكن يبدو أن هذا هو الظاهر على السطح فقط، وأعتقد أن مجتمعاتنا على موعد قريب مع موجة قادمة بدأت تتشكل بعيداً عن أنظار المراقبين والمفكرين خاصة في ظل انشغالهم لسنوات في معركة بقاء ووجود ضد الإسلاميين السياسيين الذين استبسلوا في محاولات الاستحواذ على فكر ووجدان الشارعين الخليجي والعربي.
القادم على ما يبدو رياحه شمالية غربية ووعوده تتلخص في حريات شخصية ودينية لا سقف لها واقتصاد رأس مالي منفتح تماماً -قد يقسو على الكثيرين- وديمقراطية بالأسلوب الغربي.
وإذا آمنا بمبدأ "لكل فعل رد فعل، يساويه في الشدة، ويعاكسه في الاتجاه" فإن التشدد في الدين لحد الانغلاق الذي شهدناه في العقود الأخيرة دفع فئة منا إلى الخروج فكرياً من المجتمع وسهل لهم اعتناق الفكر الغربي المعروف عنه تساهله الكبير مع الحريات بأنواعها.
يضاف إلى هذه الفئة، مجموعة أخرى معجبة لدرجة الهيام بكل ما هو غربي تأسست وتتأسس حالياً في بعض مدارسنا وكذلك الجامعات الغربية. والمجموعة هذه في ازدياد مطرد نظراً للزيادة الكبيرة في أعداد الملتحقين بالمدارس ذات الطابع الغربي في المناهج والتعليم وكثرة الدارسين في الخارج.
حتى اللحظة، ينظر لهؤلاء على أنهم لبنة التقدم والتطور وعمود المستقبل، فهم من نهلوا العلم من أفضل المدارس وأكثر البلدان تقدماً.
لكن هل دققنا أكثر؟
هل تأكدنا أن انتماءهم لدينهم وعروبتهم وتاريخهم وبلدانهم مازال مستمراً أم تبخر وتم استبداله بهوية لها مواصفات أخرى؟
أعتقد، أن عملية الاستبدال تمت وانتهت وختمت بأختام حبرها لا يمحى.
قبل عشرين عاماً، لم يكن لمحبي الغرب والمتشبهين بهم وجود واضح في مجتمعاتنا، حيث كانوا فئة صغيرة لها دوائرها المغلقة. كانت أعدادهم بسيطة ولا تذكر.
اليوم عربياً وخليجياً أصبح لهم جمعياتهم المدنية والخيرية وندواتهم ومؤتمراتهم وصار لهم حضور واضح في السينما والتلفزيون "لاحظ السينما والدراما الحديثة"، وبدؤوا في الظهور بثقة في الإعلام الجديد الذي من خلاله يروجون لنمط حياة غربي دخيل على مجتمعاتنا. باختصار أصبحوا كتلة جديدة -و لو صغيرة- تجمعها أفكار وأنماط حياتية متشابهة.
ومن يعتقد أن هؤلاء بعيدون عن الأيديولوجيا فقد حاد عن الصواب، لأن الفكر الغربي بحد ذاته أيديولوجيا مطبقة فعلياً وملموسة، وما على المتابع سوى الاطلاع على كتاب رولف بيتري "تاريخ مختصر للأيديولوجيا الغربية" الذي يستعرض المصطلحات السياسية التي يستخدمها العالم الحديث والتي تأتي جذورها من الثقافة الغربية.
"حقوق الإنسان" و"المساعدات الإنسانية" و"حرية الأديان" و"المساواة بين الجنسين" و"التجارة الحرة" و"الاتجار بالبشر" وغيرها من المصطلحات التي باتت تستخدم وكأنها جزء لا يتجزأ من حديثنا وثقافتنا هي في الواقع من صميم الفكر الغربي.
المصطلحات المذكورة، تبقى في خانة المصطلحات الإيجابية التي تعايشنا معها وتبنيناها برحابة صدر، لكن لسنا ببعيدين عن زمن قد يجبرنا على التعامل مع مصطلحات وقضايا أخرى أكثر تعقيداً تمس الأسرة والشرف أو تتدخل في شكل وتركيبة هيكل الدولة.
وطالما بدأت تتشكل لدينا كتلة غرامها الغرب فلا يوجد ما يمنع أن يكون لهذه الكتلة إذا توسعت وكبرت أن تكون محركاً ووقوداً لانتشار قوة سياسية قادمة بعد عدة سنوات. "حركة شباب الفيسبوك في مصر في 2011 قد تكون درساً نتعلم منه".
وما المانع أن تطالب بعد ذلك كتلة محبي الغرب أو "الكنتاكيون" كما يسميهم البعض بأقصى درجات الحرية بل ومطابقة نموذج الحياة السياسية الغربية في المستقبل؟
ألم يتبنَّ الكثير من شباب الستينات والسبعينات الذين درسوا في مصر وبغداد وروسيا الفكر الناصري والبعثي والشيوعي، وعندما عادوا إلى بلدانهم طالبوا وبعنف باستنساخ تجارب هذه البلدان في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية؟
ليس من المستبعد من وجهة نظري أن يستبدل الفراغ الذي تركه الفكر الديني السياسي والذي أتعبنا وأدخلنا في متاهات لا حصر لها بفكر "كنتاكي" طالما الأرضية باتت مهيئة وطالما الانبهار بالغير هو سمة شعوبنا وخاصة وأننا لم نستطع حتى الآن أن نصنع فكراً تنويرياً خاصاً بنا ونحقق كدول ومجتمعات التقدم الفعلي في العلم والصناعة والاقتصاد.