د. فهد حسين
باتت مفردة الثقافة منتشرة في العديد من الأدبيات العربية والكتابات البحثية، والدراسات النقدية، بل حتى المؤسسات التي تعنى بالكتّاب والفنون المختلفة دخلت لعالمها هذه المفردة.
وإن كنا لا نريد الدخول في أصل هذه الكلمة ومصدرها المكاني، فإن الباحث مالك بن نبي أشار إلى أن الكاتب المصري سلامة موسى أعطاها شرعية التوظيف في المشهد العربي، حين بيّن أنه سمع ذلك من محمود شاكر [1]. لكن هل بات مفهوم الثقافة في العالم العربي له قوة وتحديد كما هو في أوروبا مثلاً؟ أم لاتزال الثقافة في عالمنا بحاجة إلى إكسابها القوة في الدور الملقى على عاتق المفكرين والمنظرين وعلماء اجتماع المعرفة؟
إن كلمة ثقافة لم تصل إلينا بمصطلحها الحالي، وبدلالة مفهومها، إلا بعد أن تمت ترجمتها لأرض الواقع المعيش، إذ كانت تعني تلك الأمور المرتبطة بالفكر وبالإنسان الذي يقرأ، أو كما قيل بأن الثقافة هي الزاد الذي يبقى بعد ما ينسى الإنسان كل ما تعلمه، أي تلك الثقافة التي تعني "ثقافة الروح أو ثقافة العقل للرجل الذي عرك القراءة"[2]، أو كما أشار نصر حامد أبو زيد إلى أن الثقافة كأنها كائن في هذا الوجود الطبيعي، ولكن عليها التحول من هذا الوجود الذي نطلق عليه طبيعياً إلى الوعي بالوجود نفسه.
وفي الوقت الذي كانت هذه الظروف تنخر في جسد المنطقة كانت مقابل هذا ثورة معلوماتية واتصالية غير ساكنة، بل شكلت تحولاً معيشياً اجتماعياً وثقافياً في التعاطي مع الأحداث عامة، والثقافية خاصة وما يتعلق بالمنجز الأدبي والصحفي والفني، وتبادل الأفكار من خلال الحوارات والمناقشات التي هيأتها بعض المواقع الإلكتروني، والمنصات الثقافية، والوسائط الاجتماعية الفاتحة ذراعيها لاستقبال من يرغب بالمشاركة، لذلك بات النشر سهلاً وخارجاً عن سيطرة الرقابة المختلفة.
وهنا ينبغي أن نعي ما تخزنه ذاكرتنا من معارف ومفاهيم ومعلومات، لما لهذه الذاكرة من قوة عظيمة في التخزين والظهور حينما تستدعى، لذلك لا تتلاشى هذه الذاكرة سواء تمثلت في الأفكار أو الأصوات أو الصور والمشاهد أو الأحداث، بل المشاعر والعواطف والانفعالات، وحتى المسؤوليات والمهمات.
اللغــة
حين نأخذ اللغة باعتبارها ذات خصوصية ثقافية، فرغم أن اللغة مقوم أساس في الهوية لأي مجتمع أو شعب أو أمة، وهو ما أكده علي الوردي بالقول "إن اللغة ركن من أركان القومية العربية الطالعـة، فهي الربـاط الذي يجعـل العرب في شتى أقطـارهم يشعرون بأنهـم أمة واحـدة، ومن الصعب أن يتحد العرب بعواطفهم وأفكارهم قبل أن تنتشر بينهم لغة مبسطة يستطيعون التفاهم بها"[3]، فإنها أحياناً قد لا تأخـذ مكانة كبيرة في نسيج المقومات ذات العلاقة بالخصوصيـة الثقافية أو القومية، مثل اللغة الإسبانية التي هي هوية من هويات الشعب الإسباني، ولكن هذه اللغة انتقلت إلى أمكنة أخرى، أي في أمريكا اللاتينية لتكون هي اللغة الأولى عدا البرازيل التي تتحدث اللغة البرتغالية، فهل نعتبرها تمثل خصوصية ثقافية لهذه الشعوب؟ وكذلك اللغة الإنجليزية التي باتت اللغة الأولى في عدد من الدول أو اللغة الفرنسية أيضاً، وهذا خلاف ما ننظر إلى اللغة العربية أو اللغة اليابانية أو الصينية أو الهندية إذ تشكل جزءاً من الهوية.
وكما هناك تعريفات للثقافة، فإن للغة تعريفات أيضاً، ومنها أن "اللغة قدرة ذهنية مكتسبة يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتوصل بها أفراد مجتمع ما"[4]، بمعنى أن اللغة نشاط يتمظهر في العديد من الجوانب القولية والكتابية، حيث التخصص الأكاديمي يفرض نوعاً من التعاطي اللغوي، فعالم المحاماة والقانون لديه من الثروة اللغوية التي تختلف عن لغة عالم الطب أو الهندسة أو عالم العسكرية أو عالم التعليم المدرسي، كما أن عرض اللغة للمتلقي سماعاً أو قراءة فهي تختلف إن كانت تلك اللغة الصحافية التي تناسب أغلب القراء في وضوحها وسهولة فهمها وقلة تقعيرها كالقرارات والأحكام والأخبار الصحفية المتنوعة، وهناك في الصحافة أيضاً من اللغة التي تعلو لترتبط بالإبداع والفكر والثقافة كالشعر والسرد والنقد والكتابات الفلسفية أو كتابات النقد الثقافي.
ولكن تحدث المفارقة حين نتعامل من الجانب الأول من توصيل اللغة بلغة الجانب الثاني، وكأننا نطالب القارئ هنا الصعود إلى أعلى درجات السلم ليفهم المراد والقصدية من هذه اللغة، في الوقت نفسه ألا تكون لغة الجانب الثاني سهلة التناول بحيث تهبط رغبة منها من أجل نسج العلاقة بينها وبين المتلقين عامة.
وهنا تكمن أيضاً إشكالية التبسيط الذي يؤثر على اللغة والنص في وقت واحد، فضلاً عن التدني الذي يحدث مع مرور الزمن في مستوى النص أداءً ولغة وفكراً، "فالفهم قد يكون في بعض المجلات هو التقاط تفسير ممكن أو معقول، وفي مجالات ثانية هو الاهتمام بالمعاني المتعددة الممكنة، وكيف يتعلق بعضها ببعض أو يعتمد بعضها على بعض"[5].
وحين نؤكد أن اللغة ذات أهمية كبرى وضرورية للإنسان والمجتمع والحياة، فهنا أعني اللغة المنطوقة والمكتوبة معاً، إضافة إلى تلك اللغات الأخرى ذات العلاقة بالجسد والأوامر والنواهي والحركات، أي أنها لغة التواصل والوجود الحياتي التي تسهل علينا عمليات التعبير والتفكير وبيان العواطف والأحاسيس، لذلك علينا أن نكون واعين ومتفهمين لما للغة من مراوغة في مفرداتها ومعانيها ودلالاتها.
وهذا ما يتضح جلياً عند ما تبرز ظاهرة ما أو حالة مجتمعية أو ثقافية أو دينية ما تبدأ مفردات اللغة تتكشف عن وجهها تحاول أن تأخذ منحى تعتقد بأنها ستجذب لها أنصاراً من هنا أو هناك، وهذا ما يحدث خلال الحروب أو الاضطرابات أو التحولات المجتمعية في سياق ثقافية مختلفة قديمة أو حديثة سياسية أو دينية أو أدبية، وهذا يوضح أن اللغة ذات ارتباط بحالة المجتمع الفكرية، ومدى تعاطي الإنسان بهذه اللغة، إذ ربط بعض الباحثين اللغة بالفكر الإنساني، أي "إمكانية التفكير أولاً وأخيراً تستند إلى اللغة التي تستخدم في إبراز عناصر الفكر"[6].
وعلى هذا يتكشف لنا أن أي مجتمع ثقافي يتموضع عند المفردات بحسب السياق الثقافي الذي قد ينهل من المأثور الثقافي القديم فاللغة هنا مخزن التراث والحضارة والثقافة، أو يأخذ من حداثة الفكر واللغة التي تسهم في بلورة الأفكار المتجددة لعالم متغير وأفق رحب متسع، أو من نسيج المجتمع وتكويناته المتعددة.
الديــن
وإذا كانت اللغة تمثل جزءاً من الهوية القومية لأي شعب أو مجتمع، فإن الدين تتسع دائرة خصوصيته، حيث أوروبا على اختلاف لغاتها فإن الدين المسيحي هو الدين الرسمي لهذه الدول، وكذلك العالم الإسلامي الذي يمثله العرب وغير العرب، فالدين سواء كان سماوياً أو وضعياً أو حتى من ينادي بأنه لا دين فهو في المقابل دين أيضاً، كل هؤلاء تمثل لهم معتقداتهم الدينية هوية من هويات الإنسان المتعددة.
وحين نرى الدين أحد مقومات الخصوصية الثقافية فلأنه يضع بعض القوانين والتشريعات التي تنظم الحياة العامة والخاصة اجتماعياً وحياتياً. ولكن هل يسهم الدين في حصر الخصوصية أم في انتشارها وتلاقيها مع خصوصيات ثقافية أخرى؟
يمثل الدين بلا شك، ركيزة أساسية وخصيصة من خصائص الثقافة لأي أمة أو شعب أو قوم، سواء أكان هذا الدين سماوياً أو وضعياً، وعبر قوانين وتشريعات كل الأديان فإن مضامينها تؤكد الهوية من جهة، وخصوصية العلاقة بينها وبين المجتمع من جهة ثانية، والبعد عن التعصب والانغلاق والتحزب الأعمى من جهة ثالثة.
بل ينبغي على قادة هذا الدين أو ذاك الاهتمام بالدفاع عن مكتسبات المجتمع من خلال الدين تجاه التطرف والصراع والإرهاب ونبذ الآخر والأحادية، داعية إلى مجتمع التسامح والتآخي والتواد، وقبول الآخر عقائدياً وثقافياً وعرقياً، غيرها من المسائل المتعلقة بالجنسوية أيضاً، والأعراف والتقاليد لأي مجتمع من المجتمعات الصغيرة أو الكبيرة، المنفتح على ثقافات المجتمعات أو المنغلق، فإن الخصوصية الثقافية وارتباطها بالدين تسهم في حماية المجتمع من براثن التدهور والانحطاط في مستنقعات الكراهية، حيث الخلل في ممارسة الدين وتفسير النصوص الدينية، وكذلك حب التحكم والسيطرة من قبل البعض هو ما سبب البعد عن الدين أو الهروب من ممارسة الدين.
لكن الخصوصية الثقافية التي يشكلها الدين والمجتمع، قد لا تسير في طريق سوي بسبب تأويل النصوص بوصفها مرجعية دينية للمجتمع لتسهم في فرض الوصايا وتسييس الخطاب الديني الذي يتلقفه العامة من الناس على أنه الفيصل في تطوير المجتمع وتحديثه وتعديل مساره، وهو ما ساهمت فيه عوامل كثيرة، منها: القنوات الفضائية التي أخذت من الدين طريقاً ونصبت نفسها مرشداً ومفتياً ومقرراً لحياة الناس والمجتمع، وأمكنة العبادة كالمساجد والجوامع والمآتم التي وجد عدد من رجال الدين أنها أمكنة صالحة لبث ما تريده هذه الجماعة أو تلك، بعيداً عن الألفة والدعوة إلى مبادئ التسامح والإخاء والمشاركة المجتمعية، وأيضًا بعض المطبوعات التي لا تشارك في بناء المجتمع العام بقدر ما تحاول عرقلة أي إصلاح مجتمعي حكومي أو أهلي، لما لها من تكريس ممارسات لا ترتقي إلى الخصوصية الثقافية الدينية في هذا المجتمع أو ذاك.
وقد يعود هذا الخلل في سير العلاقة بين الدين وخصوصية المجتمع والتموجات التي تحدث إلى وجود بعض الجهات ذات المصالح الخاصة التي ترى خلخلة المجتمعات تكمن في كيفية ممارسات الدين، وكيفية توظيف التراث، وكيفية ممارسة اللغة أيضاً، وهنا تبتعد الخصوصية الثقافية تدريجياً لتصبح محل نقمة على المجتمع، وهذا ما ظهر خلال مسيرة العالم العربي من بداية ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، وبمعنى آخر أين تكمن الخصوصية الدينية في العالم العربي حين ننظر إلى الأقليات القومية والأثنية والعرقية.
القيم المتوارثة
أما بالحديث عن القيم المتوارثة في المجتمع حضارياً وثقافياً واجتماعياً، فإن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية له حضارته وثقافته وقيمه ومعتقداته وأعرافه وموروثاته الثقافية الشفاهية والمكتوبة، وهي النهج الذي يحاول أفراد المجتمع السير عليه لكي يبنوا هذا المجتمع وهم يمارسون دورهم الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والديني والتعليمي وغير ذلك.
ويؤكد المشتغلون بالتاريخ والتراث على أن التراث هو ما جاءنا من الماضي سواء البعيد أم القريب، ويصل للأجيال بالتوارث، وإذا كانت الخصوصية الثقافية العربية لها ملامح، فالتراث هو أحدها، لكن التمسك بالتراث في الثقافة العربية لا يعني مواجهة الثقافة الغربية أو الشرقية من خلال التمسك بالقيم لمواجهة الغرب الذي أخذت حضارته تهدد المجتمع العربي، وكأن "العودة إلى التراث ضرورة أخلاقية، والتراث قادر على التعبير عن الواقع، وملامسة الشعور أكثر من الأشكال الروائية الأوروبية"[7]، ولا يعني أيضاً التخلي عنه ورفضه، وإنما علينا بالموازنة بين الاتجاهين، أي لابد من النظر إلى التراث ومناقشته ووضعه ضمن محيط المنجز البشري عبر التاريخ والمجتمع.
وفي الوقت ذاته لا بد من الربط بين ما في الحاضر من قضايا ومشكلات والماضي وما يحمله من تراث وتاريخ وعلاقات [8]، أي التراث هو ما تناقلته الأجيال بالتوارث والتواتر من إرث مادي أو معنوي، شفاهي أو مكتوب، وقائم على التداول بين أفراد المجتمع في ضوء التفسير والتحليل والتأويل.
وأشار إلى ذلك بنسالم حَمّيش في حديثه عن خطاب الأمازيعيات وفخاخ البداوة الجديدة، إذ يقول "إن إرنست رينان تحدث عن الأمة التي هي فوق العرق واللغة والمصالح والقرابة الدينية والجغرافيا والضرورات العسكرية، وهي روح ومبدأ روحي يقومان على الامتلاك الجماعي لتراث ذكريات غنى، والتوافق والرغبة في العيش معاً والإرادة من أجل الاستمرار في استثمار التراث الذي تلقيناه"[9].
وهذه كلها تسهم بشكل مباشر في إيجاد القيم والمبادئ والقوانين التي تنظم حياة المجتمعات، فتلك موروثات كونها الإنسان عبر تراكم السنين والتجارب والخبرات، وكلما تمكنت هذه القيم المختلفة من صنع حياة أفضل معرفياً وثقافياً انعكس ذلك على الحياة الاجتماعية والمعيشة، لذلك الخصوصية الثقافية في العالم العربي تقوم على التراث العربي والقيم الدينية التي دعت لها الأديان السماوية، وأسهمت هذه الخصوصية في رفد القيم الحضارية والثقافية والأدبية للأمة العربية على مر العصور.
وهذا النجاح يعكس أهمية الخصوصية الثقافية لما له من تأثير مباشر على البناء المجتمعي، والنسق الاجتماعي والأنماط السلوكية، حيث كلما ضاقت المساحة المكانية ضاقت الخصوصية الثقافية والاجتماعية، فاللباس مثلاً في العالم العربي يختلف من منطقة لأخرى بشكل عام، ولباس المرأة بشكل خاص، كما هو موجود في القرى والأرياف والمناطق المنغلقة عنها في المدن والمناطق المنفتحة على الآخر اجتماعياً وثقافياً.
بل حضور المرأة في المجتمع فإنها تمثل خصوصية ثقافية في المجتمع الواحد المحصور في منطقة عربية دون أخرى، وعلى كل المكونات الاجتماعية التي تمثل الأقليات أو الأثنيات أو القوميات الصغيرة أن تسهم بثقافتها في الخصوصية الثقافية التي تعبر عن مجتمع أو قوم أو أمة، وهذا يأخذنا إلى ممارسة بعض القيم الإنسانية وفق درجة وعي هذا المجتمع بأهميتها أو ذاك.
ومتى ترجمت هذه القيم واقعاً وتميزت به باتت في دائرة الخصوصية الثقافية، مثل: الحرية الفردية والحرية الجماعية، الديمقراطية... إلخ، وهي قيم تسهم في تعضيد الخصوصية الثقافية من جهة وتبني علاقات حضارية مع الثقافات الأخرى؛ لأنها قيم إنسانية رفيعة الشأن والمكانة، وما الخصوصية هنا إلا في طرائق التعامل مع هذه القيم، أو في آليات تنفيذها على أرض الواقع.
[1] - انظر: زكي الميلاد، المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية في الثقافة، ص36.
[2] - جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص321.
[3] - علي الوردي، أسطورة الأدب الرفيع، دار كوفان للنشر، بيروت، ط2، 1994، ص60.
[4] - أحمد محمد المعتوق، الحصيلة اللغوية: أهميتها – مصادرها - وسائل تنميتها، عالم المعرفة – 212، أغسطس 1996، ص33.
[5] - مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة – 193، ص45.
[6] - أحمد محمد المعتوق، الحصيلة اللغوية: أهميتها – مصادرها - وسائل تنميتها، ص36.
[7] - حسن على المخلف، التراث والسرد، ص27.
[8] - انظر: محمد رياض وتار، توظيف التراث في الرواية العربية، ص22-23.
[9] - بنسالم حِمّيش، نقد ثقافة الحَجْر وبداوة الفكر، ص192.
باتت مفردة الثقافة منتشرة في العديد من الأدبيات العربية والكتابات البحثية، والدراسات النقدية، بل حتى المؤسسات التي تعنى بالكتّاب والفنون المختلفة دخلت لعالمها هذه المفردة.
وإن كنا لا نريد الدخول في أصل هذه الكلمة ومصدرها المكاني، فإن الباحث مالك بن نبي أشار إلى أن الكاتب المصري سلامة موسى أعطاها شرعية التوظيف في المشهد العربي، حين بيّن أنه سمع ذلك من محمود شاكر [1]. لكن هل بات مفهوم الثقافة في العالم العربي له قوة وتحديد كما هو في أوروبا مثلاً؟ أم لاتزال الثقافة في عالمنا بحاجة إلى إكسابها القوة في الدور الملقى على عاتق المفكرين والمنظرين وعلماء اجتماع المعرفة؟
إن كلمة ثقافة لم تصل إلينا بمصطلحها الحالي، وبدلالة مفهومها، إلا بعد أن تمت ترجمتها لأرض الواقع المعيش، إذ كانت تعني تلك الأمور المرتبطة بالفكر وبالإنسان الذي يقرأ، أو كما قيل بأن الثقافة هي الزاد الذي يبقى بعد ما ينسى الإنسان كل ما تعلمه، أي تلك الثقافة التي تعني "ثقافة الروح أو ثقافة العقل للرجل الذي عرك القراءة"[2]، أو كما أشار نصر حامد أبو زيد إلى أن الثقافة كأنها كائن في هذا الوجود الطبيعي، ولكن عليها التحول من هذا الوجود الذي نطلق عليه طبيعياً إلى الوعي بالوجود نفسه.
وفي الوقت الذي كانت هذه الظروف تنخر في جسد المنطقة كانت مقابل هذا ثورة معلوماتية واتصالية غير ساكنة، بل شكلت تحولاً معيشياً اجتماعياً وثقافياً في التعاطي مع الأحداث عامة، والثقافية خاصة وما يتعلق بالمنجز الأدبي والصحفي والفني، وتبادل الأفكار من خلال الحوارات والمناقشات التي هيأتها بعض المواقع الإلكتروني، والمنصات الثقافية، والوسائط الاجتماعية الفاتحة ذراعيها لاستقبال من يرغب بالمشاركة، لذلك بات النشر سهلاً وخارجاً عن سيطرة الرقابة المختلفة.
وهنا ينبغي أن نعي ما تخزنه ذاكرتنا من معارف ومفاهيم ومعلومات، لما لهذه الذاكرة من قوة عظيمة في التخزين والظهور حينما تستدعى، لذلك لا تتلاشى هذه الذاكرة سواء تمثلت في الأفكار أو الأصوات أو الصور والمشاهد أو الأحداث، بل المشاعر والعواطف والانفعالات، وحتى المسؤوليات والمهمات.
اللغــة
حين نأخذ اللغة باعتبارها ذات خصوصية ثقافية، فرغم أن اللغة مقوم أساس في الهوية لأي مجتمع أو شعب أو أمة، وهو ما أكده علي الوردي بالقول "إن اللغة ركن من أركان القومية العربية الطالعـة، فهي الربـاط الذي يجعـل العرب في شتى أقطـارهم يشعرون بأنهـم أمة واحـدة، ومن الصعب أن يتحد العرب بعواطفهم وأفكارهم قبل أن تنتشر بينهم لغة مبسطة يستطيعون التفاهم بها"[3]، فإنها أحياناً قد لا تأخـذ مكانة كبيرة في نسيج المقومات ذات العلاقة بالخصوصيـة الثقافية أو القومية، مثل اللغة الإسبانية التي هي هوية من هويات الشعب الإسباني، ولكن هذه اللغة انتقلت إلى أمكنة أخرى، أي في أمريكا اللاتينية لتكون هي اللغة الأولى عدا البرازيل التي تتحدث اللغة البرتغالية، فهل نعتبرها تمثل خصوصية ثقافية لهذه الشعوب؟ وكذلك اللغة الإنجليزية التي باتت اللغة الأولى في عدد من الدول أو اللغة الفرنسية أيضاً، وهذا خلاف ما ننظر إلى اللغة العربية أو اللغة اليابانية أو الصينية أو الهندية إذ تشكل جزءاً من الهوية.
وكما هناك تعريفات للثقافة، فإن للغة تعريفات أيضاً، ومنها أن "اللغة قدرة ذهنية مكتسبة يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتوصل بها أفراد مجتمع ما"[4]، بمعنى أن اللغة نشاط يتمظهر في العديد من الجوانب القولية والكتابية، حيث التخصص الأكاديمي يفرض نوعاً من التعاطي اللغوي، فعالم المحاماة والقانون لديه من الثروة اللغوية التي تختلف عن لغة عالم الطب أو الهندسة أو عالم العسكرية أو عالم التعليم المدرسي، كما أن عرض اللغة للمتلقي سماعاً أو قراءة فهي تختلف إن كانت تلك اللغة الصحافية التي تناسب أغلب القراء في وضوحها وسهولة فهمها وقلة تقعيرها كالقرارات والأحكام والأخبار الصحفية المتنوعة، وهناك في الصحافة أيضاً من اللغة التي تعلو لترتبط بالإبداع والفكر والثقافة كالشعر والسرد والنقد والكتابات الفلسفية أو كتابات النقد الثقافي.
ولكن تحدث المفارقة حين نتعامل من الجانب الأول من توصيل اللغة بلغة الجانب الثاني، وكأننا نطالب القارئ هنا الصعود إلى أعلى درجات السلم ليفهم المراد والقصدية من هذه اللغة، في الوقت نفسه ألا تكون لغة الجانب الثاني سهلة التناول بحيث تهبط رغبة منها من أجل نسج العلاقة بينها وبين المتلقين عامة.
وهنا تكمن أيضاً إشكالية التبسيط الذي يؤثر على اللغة والنص في وقت واحد، فضلاً عن التدني الذي يحدث مع مرور الزمن في مستوى النص أداءً ولغة وفكراً، "فالفهم قد يكون في بعض المجلات هو التقاط تفسير ممكن أو معقول، وفي مجالات ثانية هو الاهتمام بالمعاني المتعددة الممكنة، وكيف يتعلق بعضها ببعض أو يعتمد بعضها على بعض"[5].
وحين نؤكد أن اللغة ذات أهمية كبرى وضرورية للإنسان والمجتمع والحياة، فهنا أعني اللغة المنطوقة والمكتوبة معاً، إضافة إلى تلك اللغات الأخرى ذات العلاقة بالجسد والأوامر والنواهي والحركات، أي أنها لغة التواصل والوجود الحياتي التي تسهل علينا عمليات التعبير والتفكير وبيان العواطف والأحاسيس، لذلك علينا أن نكون واعين ومتفهمين لما للغة من مراوغة في مفرداتها ومعانيها ودلالاتها.
وهذا ما يتضح جلياً عند ما تبرز ظاهرة ما أو حالة مجتمعية أو ثقافية أو دينية ما تبدأ مفردات اللغة تتكشف عن وجهها تحاول أن تأخذ منحى تعتقد بأنها ستجذب لها أنصاراً من هنا أو هناك، وهذا ما يحدث خلال الحروب أو الاضطرابات أو التحولات المجتمعية في سياق ثقافية مختلفة قديمة أو حديثة سياسية أو دينية أو أدبية، وهذا يوضح أن اللغة ذات ارتباط بحالة المجتمع الفكرية، ومدى تعاطي الإنسان بهذه اللغة، إذ ربط بعض الباحثين اللغة بالفكر الإنساني، أي "إمكانية التفكير أولاً وأخيراً تستند إلى اللغة التي تستخدم في إبراز عناصر الفكر"[6].
وعلى هذا يتكشف لنا أن أي مجتمع ثقافي يتموضع عند المفردات بحسب السياق الثقافي الذي قد ينهل من المأثور الثقافي القديم فاللغة هنا مخزن التراث والحضارة والثقافة، أو يأخذ من حداثة الفكر واللغة التي تسهم في بلورة الأفكار المتجددة لعالم متغير وأفق رحب متسع، أو من نسيج المجتمع وتكويناته المتعددة.
الديــن
وإذا كانت اللغة تمثل جزءاً من الهوية القومية لأي شعب أو مجتمع، فإن الدين تتسع دائرة خصوصيته، حيث أوروبا على اختلاف لغاتها فإن الدين المسيحي هو الدين الرسمي لهذه الدول، وكذلك العالم الإسلامي الذي يمثله العرب وغير العرب، فالدين سواء كان سماوياً أو وضعياً أو حتى من ينادي بأنه لا دين فهو في المقابل دين أيضاً، كل هؤلاء تمثل لهم معتقداتهم الدينية هوية من هويات الإنسان المتعددة.
وحين نرى الدين أحد مقومات الخصوصية الثقافية فلأنه يضع بعض القوانين والتشريعات التي تنظم الحياة العامة والخاصة اجتماعياً وحياتياً. ولكن هل يسهم الدين في حصر الخصوصية أم في انتشارها وتلاقيها مع خصوصيات ثقافية أخرى؟
يمثل الدين بلا شك، ركيزة أساسية وخصيصة من خصائص الثقافة لأي أمة أو شعب أو قوم، سواء أكان هذا الدين سماوياً أو وضعياً، وعبر قوانين وتشريعات كل الأديان فإن مضامينها تؤكد الهوية من جهة، وخصوصية العلاقة بينها وبين المجتمع من جهة ثانية، والبعد عن التعصب والانغلاق والتحزب الأعمى من جهة ثالثة.
بل ينبغي على قادة هذا الدين أو ذاك الاهتمام بالدفاع عن مكتسبات المجتمع من خلال الدين تجاه التطرف والصراع والإرهاب ونبذ الآخر والأحادية، داعية إلى مجتمع التسامح والتآخي والتواد، وقبول الآخر عقائدياً وثقافياً وعرقياً، غيرها من المسائل المتعلقة بالجنسوية أيضاً، والأعراف والتقاليد لأي مجتمع من المجتمعات الصغيرة أو الكبيرة، المنفتح على ثقافات المجتمعات أو المنغلق، فإن الخصوصية الثقافية وارتباطها بالدين تسهم في حماية المجتمع من براثن التدهور والانحطاط في مستنقعات الكراهية، حيث الخلل في ممارسة الدين وتفسير النصوص الدينية، وكذلك حب التحكم والسيطرة من قبل البعض هو ما سبب البعد عن الدين أو الهروب من ممارسة الدين.
لكن الخصوصية الثقافية التي يشكلها الدين والمجتمع، قد لا تسير في طريق سوي بسبب تأويل النصوص بوصفها مرجعية دينية للمجتمع لتسهم في فرض الوصايا وتسييس الخطاب الديني الذي يتلقفه العامة من الناس على أنه الفيصل في تطوير المجتمع وتحديثه وتعديل مساره، وهو ما ساهمت فيه عوامل كثيرة، منها: القنوات الفضائية التي أخذت من الدين طريقاً ونصبت نفسها مرشداً ومفتياً ومقرراً لحياة الناس والمجتمع، وأمكنة العبادة كالمساجد والجوامع والمآتم التي وجد عدد من رجال الدين أنها أمكنة صالحة لبث ما تريده هذه الجماعة أو تلك، بعيداً عن الألفة والدعوة إلى مبادئ التسامح والإخاء والمشاركة المجتمعية، وأيضًا بعض المطبوعات التي لا تشارك في بناء المجتمع العام بقدر ما تحاول عرقلة أي إصلاح مجتمعي حكومي أو أهلي، لما لها من تكريس ممارسات لا ترتقي إلى الخصوصية الثقافية الدينية في هذا المجتمع أو ذاك.
وقد يعود هذا الخلل في سير العلاقة بين الدين وخصوصية المجتمع والتموجات التي تحدث إلى وجود بعض الجهات ذات المصالح الخاصة التي ترى خلخلة المجتمعات تكمن في كيفية ممارسات الدين، وكيفية توظيف التراث، وكيفية ممارسة اللغة أيضاً، وهنا تبتعد الخصوصية الثقافية تدريجياً لتصبح محل نقمة على المجتمع، وهذا ما ظهر خلال مسيرة العالم العربي من بداية ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، وبمعنى آخر أين تكمن الخصوصية الدينية في العالم العربي حين ننظر إلى الأقليات القومية والأثنية والعرقية.
القيم المتوارثة
أما بالحديث عن القيم المتوارثة في المجتمع حضارياً وثقافياً واجتماعياً، فإن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية له حضارته وثقافته وقيمه ومعتقداته وأعرافه وموروثاته الثقافية الشفاهية والمكتوبة، وهي النهج الذي يحاول أفراد المجتمع السير عليه لكي يبنوا هذا المجتمع وهم يمارسون دورهم الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والديني والتعليمي وغير ذلك.
ويؤكد المشتغلون بالتاريخ والتراث على أن التراث هو ما جاءنا من الماضي سواء البعيد أم القريب، ويصل للأجيال بالتوارث، وإذا كانت الخصوصية الثقافية العربية لها ملامح، فالتراث هو أحدها، لكن التمسك بالتراث في الثقافة العربية لا يعني مواجهة الثقافة الغربية أو الشرقية من خلال التمسك بالقيم لمواجهة الغرب الذي أخذت حضارته تهدد المجتمع العربي، وكأن "العودة إلى التراث ضرورة أخلاقية، والتراث قادر على التعبير عن الواقع، وملامسة الشعور أكثر من الأشكال الروائية الأوروبية"[7]، ولا يعني أيضاً التخلي عنه ورفضه، وإنما علينا بالموازنة بين الاتجاهين، أي لابد من النظر إلى التراث ومناقشته ووضعه ضمن محيط المنجز البشري عبر التاريخ والمجتمع.
وفي الوقت ذاته لا بد من الربط بين ما في الحاضر من قضايا ومشكلات والماضي وما يحمله من تراث وتاريخ وعلاقات [8]، أي التراث هو ما تناقلته الأجيال بالتوارث والتواتر من إرث مادي أو معنوي، شفاهي أو مكتوب، وقائم على التداول بين أفراد المجتمع في ضوء التفسير والتحليل والتأويل.
وأشار إلى ذلك بنسالم حَمّيش في حديثه عن خطاب الأمازيعيات وفخاخ البداوة الجديدة، إذ يقول "إن إرنست رينان تحدث عن الأمة التي هي فوق العرق واللغة والمصالح والقرابة الدينية والجغرافيا والضرورات العسكرية، وهي روح ومبدأ روحي يقومان على الامتلاك الجماعي لتراث ذكريات غنى، والتوافق والرغبة في العيش معاً والإرادة من أجل الاستمرار في استثمار التراث الذي تلقيناه"[9].
وهذه كلها تسهم بشكل مباشر في إيجاد القيم والمبادئ والقوانين التي تنظم حياة المجتمعات، فتلك موروثات كونها الإنسان عبر تراكم السنين والتجارب والخبرات، وكلما تمكنت هذه القيم المختلفة من صنع حياة أفضل معرفياً وثقافياً انعكس ذلك على الحياة الاجتماعية والمعيشة، لذلك الخصوصية الثقافية في العالم العربي تقوم على التراث العربي والقيم الدينية التي دعت لها الأديان السماوية، وأسهمت هذه الخصوصية في رفد القيم الحضارية والثقافية والأدبية للأمة العربية على مر العصور.
وهذا النجاح يعكس أهمية الخصوصية الثقافية لما له من تأثير مباشر على البناء المجتمعي، والنسق الاجتماعي والأنماط السلوكية، حيث كلما ضاقت المساحة المكانية ضاقت الخصوصية الثقافية والاجتماعية، فاللباس مثلاً في العالم العربي يختلف من منطقة لأخرى بشكل عام، ولباس المرأة بشكل خاص، كما هو موجود في القرى والأرياف والمناطق المنغلقة عنها في المدن والمناطق المنفتحة على الآخر اجتماعياً وثقافياً.
بل حضور المرأة في المجتمع فإنها تمثل خصوصية ثقافية في المجتمع الواحد المحصور في منطقة عربية دون أخرى، وعلى كل المكونات الاجتماعية التي تمثل الأقليات أو الأثنيات أو القوميات الصغيرة أن تسهم بثقافتها في الخصوصية الثقافية التي تعبر عن مجتمع أو قوم أو أمة، وهذا يأخذنا إلى ممارسة بعض القيم الإنسانية وفق درجة وعي هذا المجتمع بأهميتها أو ذاك.
ومتى ترجمت هذه القيم واقعاً وتميزت به باتت في دائرة الخصوصية الثقافية، مثل: الحرية الفردية والحرية الجماعية، الديمقراطية... إلخ، وهي قيم تسهم في تعضيد الخصوصية الثقافية من جهة وتبني علاقات حضارية مع الثقافات الأخرى؛ لأنها قيم إنسانية رفيعة الشأن والمكانة، وما الخصوصية هنا إلا في طرائق التعامل مع هذه القيم، أو في آليات تنفيذها على أرض الواقع.
[1] - انظر: زكي الميلاد، المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية في الثقافة، ص36.
[2] - جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص321.
[3] - علي الوردي، أسطورة الأدب الرفيع، دار كوفان للنشر، بيروت، ط2، 1994، ص60.
[4] - أحمد محمد المعتوق، الحصيلة اللغوية: أهميتها – مصادرها - وسائل تنميتها، عالم المعرفة – 212، أغسطس 1996، ص33.
[5] - مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة – 193، ص45.
[6] - أحمد محمد المعتوق، الحصيلة اللغوية: أهميتها – مصادرها - وسائل تنميتها، ص36.
[7] - حسن على المخلف، التراث والسرد، ص27.
[8] - انظر: محمد رياض وتار، توظيف التراث في الرواية العربية، ص22-23.
[9] - بنسالم حِمّيش، نقد ثقافة الحَجْر وبداوة الفكر، ص192.