المثقف والأفـق المنظور
الأفق المنظور – الحلقة الأخيرة
د. فهد حسين
لا ريب عندي أن الكتاب العرب لديهم الاستعداد لحل أي تباين في نسج العلاقات الثقافية بيننا كعرب وبين الآخر، فحين " نرتقي بإنسانية الإنسان ينبغي أن نتبنى قيمًا حضارية أنجزتها الأمم جميعًا مما يؤسس لمد جسور التفاهم بين البشر بعيدًا عن الهويات القاتلة "([1])، نحن بحاجة إلى معرفة طبيعة التحولات الفكرية التي أسهمت في هذا الحراك من قبل الشرائح المثقفة، بحاجة إلى المزج بين الواقع المعيش والحقيقة الماثلة أمامنا، بحاجة إلى تبرير هذه الكتابات التي تقف مع أو ضد، تبريرًا منطقيًا أو على الأقل موضوعيًا، نحن بحاجة إلى قراءة وعي الإنسان العربي بعد كل ما جرى على العالم العربي وأضعف بناه المختلفة، وخلخل النسيج الاجتماعي، وأثر ذلك في المسيرة الثقافية والنهضوية التي كان المثقفون يحلمون بها.
وإذا كان الاتصال الثقافي في القديم تشكل وتمظهر بعد الصراعات، فاليوم ينبغي أن يقوم على القواسم المشتركة، والصلات المتقاربة، والمصالح الثقافية المتجانسة، لا على التعنت والتطرف والمناداة ببعض الأفكار والمفاهيم والقيم التي ترضي طرفًا دون آخر. ولا شك أن هناك طموحات كثيرة تختلج في نفس كل مهتم بهذه الأرض العربية، ومن يشتغل بالثقافة تحديدًا. لذلك ينبغي ألا نجعل من هذا التنوع الثقافي في المجتمعات العربية بؤرة للمشاحنات المذهبية، والخلافات العقائدية، والتباينات الطائفية، والازدراءات العرقية، أو اللونية، والتقليل من الأقليات، وألا نعيش في بوتقة الانغلاق الجغرافي أو الثقافي، أو الوقوف على تلك الدمن والأطلال التي عفى عليها الزمن وباتت مدفونة في الذاكرة الثقافية العربية والاجتماعية، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن كل مثقف عليه أن يكون واعيًا لدوره المتمحور بعلاقته بالتاريخ والماضي، وبقراءته قراءة فاحصة، وبالحاضر، وكيف يعيش مجتمعه، وبالمستقبل.
وحينما نعمل على تحقيق طموحات أبناء الوطن العربي، وتطوير المجتمع، فإن هذا رهان يتجه إلى الشباب حيث إنه رهان غير خاسر إذا أتقنا كيفية مواجهة التحديات، ونمينا مهاراتهم، وطاقاتهم، وحفزنا قدراتهم التخصصية، وفي الوقت نفسه يتم السعي إلى القضاء على عقد الخوف والتوجس من طبيعة المثقف ودوره في المجتمع، وكذلك أن تفتح المؤسسات المجتمعية الحكومية والأهلية المعنية بالشأن الثقافي والأدبي والعلمي والتقني وكل ما يطور المجتمع أبوابها وقنواتها المتاحة أمام الراغبين في البحث والدرس مع تقديم الدعم المادي والمعنوي لهم.
أي لابد من بناء العقول لما لها من أهمية في تعديل السلوك الفردي والجماعي، وتنمية الوعي، والتأكيد على المكتسبات الثقافية والمعرفية المتنوعة، بل السير قدمًا نحو الحداثة التي تلامس كل ما يحيط بالإنسان فكريًا وماديًا ومعنويًا وعاطفيًا، والابتعاد عن ثقافة التهميش والاقصاء فهي ثقافة مزرية تقتل طموحات الوطن وأفراده، وتفسد الظواهر الثقافية كالقراءة الواعية والصريحة والناقدة، لذلك ينبغي أن تكون من ضمن أجندة المثقف الواعي الحريص على مجتمع وتطوره والراغب في تحديث الوعي والفكر عند أفراد هذا المجتمع أو ذاك عليه أن يكون حاضرًا موضوعيًا في تلك الأفكار أو النصوص التي يكتبها وما تحمله من مسحة سجالية تسهم في بلورة الأفكار وتسيير العمل تجاه البناء في الوطن.
وفي الإطار ذاته فإن المثقف والكاتب والمبدع لا ينبغي عليه أن يحصل على منجزات الفكر الغربي، أو الدول المتقدمة لكي يقوم بالبناء والتعمير والتطوير وفق لهذه المنجزات، وإنما عليه أن يدخل في طبيعة الفكر والنظام الفلسفي والأنساق الثقافية، وآليات التفكير حتى يتمكن من تحقيق ما يطمح إليه، بمعنى آخر لابد من الانفتاح باقتناع تام لما يحمله عصرنا الحاضر من تغيرات وتحولات وتحديثات مستمرة، وأن العالم المتقدم لا يقف عند محطة معينة، ولكنه يسير بثورة علمية وتكنولوجية وثقافة تجدد المفاهيم وتطور مسيرة التقدم، حيث القيم الثقافية تعمل على تحديد الفكر العلمي والإبداعي والتقني وطبيعة الابتكارات المتعددة، لذلك لا يمكن شراء أو نقل أي منجز من المنجزات العملية إلا بوجود مدخل ثقافي يفهم حالة هذا التطور والتغير وحالة المجتمعات المعنية به.
لا تتم المراجعة بالعودة إلى الماضي أو قراءة سريعة للواقع المعيش، وتلك النتائج التي ترتبت عليها، وإنما لا بد من قراءة واعية فاحصة مؤمنة بدور المثقف والفرد معًا في تحسين الوضع، وتقديم الرؤى، وإن كانت بسيطة، وأن يكون هناك تقدير واحترام لمن يقدم ذلك وبالتحديد فئة الشباب الذي فرضت عليه الظروف أن يكون مهمشًا، ولابد من إعطاء هذه الفئة العمرية المسئولية الفردية والجماعية ليكون قادرًا على تنمية قدراته ومواهبه، تجريب قدراته من أجل دفعه إلى إدارة دفة الحياة والعمل وفق المبادئ الإنسانية، وليس وفق أجندات معينة ذات طابع فئوي أو مذهبي أو عرقي أو عبر الثقافة الأحادية سواء أكانت تلك الأجندات من الداخل أم من الخارج.
حينما نراجع ذواتنا ومشروعاتنا وتطلعاتنا ومناداتنا بالحقوق، فلا ينبغي للمثقف أن يحصر دوره وذاته في مفهوم المجتمع تجاه هذا الدور، وفي محيط القائد والمصلح، والأمين على حقوق أفراد المجتمع، والمدافع عن القيم والمبادئ، وعلينا أيضًا أن نفكر مليًا من خلال طرح الأسئلة على أنفسنا، وهي عملية علمية مهمة ينبغي القيام بها بين الحين والآخر إذا رغبنا في التطوير والتحديث ومواكبة الواقع العالمي في مجالاته المختلفة، ومن هذه الأسئلة: هل نحن نمارس دورنا الحقيقي في الحياة والمجتمع وفق قيم إنسانية تسهم في بلورة العيش بكرامة وحق وحرية ومساواة وعدل واحترام للآخر المختلف عنا دينًا وطائفة وعرقًا ولونًا ومذهبًا؟ هل فكرنا في كيفية بناء العلاقات الإنسانية التي تشيد جسور المحبة بين أفراد المجتمع ببذور ثقافية؟ والاعتراف بحق الحوار الهادف كحق إنساني؟ هل فكرنا في نقد المفاهيم التي باتت قوانين وتشريعات نمارسها من دون معرفة كنه دلالاتها بعد ما أصبحت كل طائفة أو جماعة تفسر هذه المفاهيم وفق نهجها السياسي ورغبتها في الحصول على قيادة السلطة السياسية والحكم؟ هل فكرنا في تلك الفتاوى التي تصدر بين الحين والآخر من رجال دين لهم مكانتهم العلمية، ومن آخرين هم عالة على المجتمع الديني ولكن لتحقيق مصالح ذاتية أو فئوية أو مجموعاتية حتى اختلطت كل الفتاوى ولم يستطع الرجل أو الشاب البسيط التفرقة بين هذا وهذا؟ أليست قيم كل الأديان السماوية تدعو إلى تهذيب سلوك الإنسان، وبناء المجتمع على مبادئ التكافل والتراحم والتسامح والتعايش السلمي، كما تدعو إلى نبذ العنف ومقت الإرهاب، والاعتداء على الآخرين أو تعطيل مصالحهم أو الوقوف في مسيرة مستقبلهم العلمي أو المهني أو غير ذلك؟ أليست المنظمات الدولية أظهرت مواثيق عالمية تعنى بالسلام وبالحريات العامة والخاصة، الفردية والجماعية، كحرية التدين، وحرية العبادات، وحرية المعتقدات؟ وهنا يكمن دور المثقف في الدعوة المستمرة إلى التقارب والتعايش والتواد، أي الدعوة للحوار بين الأديان، الحوار بين الثقافات، الحوار بين المختلف والمؤتلف.
نريد لثقافتنا المستقبلية أن تكون قائمة ومنتشرة وحاضرة بالقوة التي كانت عليها في السابق، وأن تقاوم التحديات المختلفة التي تعيشها الأمة العربية والثقافة معًا، في ضوء التغيرات الحاصلة للعالم الديناميكي، حيث تحاول الثقافة المهيمنة السعي بقوة والسيطرة على مقدرات الشعوب ذات الثقافة الضعيفة، ليس في بنيتها بقدر ما فيه تعاطيها مع العالم، وعلى الرغم من كل هذا فلابد لكل ثقافة كانت، مهيمنة أو مهيمن عليها، أن تعبر عن نفسها وحاجاتها وتطلعاتها في سياق خصائصها ومميزاتها وحقها في الوجود.
وحيـن تدافع الثقافة أيًا كانت عن وجـودها بالطـرق السليمة والتواصـل الحضـاري، فإن هـذا يعكـس بلا شك طبيعة من يتمثـل هـذه الثقافـة، بـل لا بـد أن نعمل على يتجاوز " الوعـي التاريخـي حـدود الوعي السياسي من جميع الوجوه، وأن تصدر النظرة السياسية عن وعي مجتمعي تاريخي حضاري "([2])، بل لابد من نقد العقل العربي الذي كان ولايزال حاصرًا نفسه في دائرة التناقض في الكثير من القضايا، ومتقوقعًا في المسلمات للكثير من الأفكار الجاهزة.
وهذا لا شك يؤدي إلى انحسار حقيقي للفكر العربي النقدي مما يسبب تراجعًا كبيرًا في مجال الإبداع والابتكار في المجالات الإنسانية والعلمية والتقنية، بمعنى آخر أننا بحاجة إلى احترام التنوع والتعدد في الهويات الثقافية المنطلقة من التعدد القومي والاثني والديني والطائفي والعرقي، ولابد من الاهتمام بطبيعة الثقافة والمجالات المشتركة بين كل هذا التنوع.
كما نحن بحاجة إلي العمل على المساعدة الحقيقية في تحسين معرفتنا وتطويرها، ونشرها في الأقطار العربية من خلال مجموعة من القنوات الرسمية وغير الرسمية كجامعة الدول العربية وإداراتها المختلفة، والمجالس الوطنية والقومية ذات الشأن الثقافي، وعبر الوزارات المعنية بالثقافة والإعلام، بالإضافة إلى نشرها عن طريق الوسائل الإعلامية والوسائط المتعددة والمتنوعة من فضائيات وإذاعات وصحافة مقروءة ومنصات التواصل الاجتماعي.
إننا بأمس الحاجة إلى وضع الخطط والبرامج التي تهتم بنقل التراث ونشره بين الدول، وبيان أهميته ودوره في تنمية روح الانتماء الحقيقي للأرض والحضارة والتراث، ودوره في تكريس البعد الثقافي وتبادل الدول بعضها البعض رسميًا وأهليًا، وبشكل جماعي وفردي، وفي الوقت ذاته أن تضع كل الدول العربية من دون استثناء أهمية نشر النتاج الفكري والثقافي والأدبي بين هذه الدول مع تكريس مبدأ الدعم المادي والمعنوي، حيث إن كل هذا يسهم في المزيد من تنمية الحوار الثقافي المشترك، والعمل على إقامة المحافل الثقافية والأدبية والتقنية وغيرها، تلك التي تؤكد باستمرار القناعة التي تقول بأهمية التنوع الثقافي.
من هنا فإن علينا أن نعمل معًا، على بناء جسور ثقافية متينة، بين ما لدينا في المنطقة العربية، من تراث إنساني، مع كل الثقافات الأخرى شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالاً، من أجل الوقوف على ما نحن فيه من جهة، والعمل على تغيير النظرة السلبية من قبل الآخر، تجاه الفرد العربي من جهة أخرى، سواء في تراثه المادي أو المعنوي، أو في ثقافته المختلفة، أو في مدى قبول الآخر به، ليكون فردًا مقبولاً في المجتمعات الأخرى، بل هناك من يرى أن الثقافة ينبغي أن تكون في كيان الإنسان وشخصيته، وليس في الكتابة وفي الأقوال كما أشار إلى ذلك هربرت ريد([3]).
ويكمن هذا إذا رغبنا في تقدم مجتمعاتنا وتطويرها من خلال المعرفة والصناعة والعمل الاجتماعي وتحمل المسئوليات الفردية والجماعية، والعمل على نشر مبادئ التسامح ونبذ الطائفية والتفاخر أو التنابز بالأعراق والأنساب، أي أليس من الأجدى ونحن على هذه الأرض العربية أن نعمل معًا وفق مبادئ التعايش والتواصل والتقارب، والابتعاد عن مناداتنا بالقومية الضيقة نتج عنها عبر سنوات ولايزال العديد من المشكلات الحدودية والعرقية والمذهبية، وعززت تقوقع الأقليات والطوائف في حدود ضيقة مكانيًا وثقافيًا وتعايشًا.
وحين يأتي نؤكد على مبادئ تعايشنا، فإن الجميع له حق العيش بأمان واطمئنان وسلام. سواء أكان هؤلاء الذين يعيشـون على الأرض العربية هم (العرب أم الكرد أم الإزيديون أم الأرمـن أم الشركس أم غيرهم من الطوائف التي استقرت قديمًا أو حديثًا) فضلاً عن معتنقي الديانات السماوية والوضعية الأخرى، وأن كـل المواثيق والشرائع الدولية المعنيـة بحقـوق الإنسـان تؤكد على ما نطرحه، وهنا أشير إلى ما قالـه بطـرس البستاني بـأن " الوطـن هو الحقيقـة التي ينبغـي أن يأتلف فيهـا أبنـاء الطوائف المتناحرة "([4]).
وهذا يعني أننا بحاجة إلى كتابات تنظر إلى الواقع المعيش، بوصفه عتبة ترتبط بالقيم الإنسانية الحية والمشتركة مع العتبات الإنسانية الأخرى، بغية تجديد الخطاب الثقافي الذي نحمل عبئه على أكتافنا، ونسعى إلى تجديد الأطر الثقافية التي تحدد مساراتنا في الحياة، على أن نعمل على تحرير فكرنا من التقليدية والاتباع، وأن ننظر بجد إلى أن " الثقافة في الأصل متغيرة الخواص، وهي نتاج التداخل الإنساني في العمليات البيولوجية للطبيعة، وهي تحرر وتقيد في آن واحد، وهي نتاج مجتمعات خطاب لها ظروف اجتماعية وتاريخية، وفي الوقت نفسه تمثل اللغة لأية ثقافة ولأي مجتمع الإنجازات المادية بوصفها ميراثًا اجتماعيًا ورأس مال رمزي "([5]).