كتابة - أنـّا بالاكيان:ترجمة: أمين صالحكان بيير ريفردي واحدا من الشعراء الميتافيزيقيين المهمين في زمنه. وهو المعاصر لاثنين من اللاواقعيين العظام، كلوديل وفاليري. وجد المنفذ الروحي ليس في ديانة محددة ولا باختزال الحياة إلى نقاء تجريدي.هذا الشاعر الذي كان ينفر من الالتزامات العامة، عاش حياته الشخصية، وأيضا الفنية، وحيدا في هوامش الحلقات الأدبية. وبحسب رأيه، فان الحياة هي ذاتها كما بالنسبة لأي شخص: لا شيء مختلف، لا شيء مدهش، لا شيء فيها غير قابل للتنبؤ. حياته كانت حرة من الانعطافات الشخصية الحادة، من الاضطرابات الذهنية أو الجسمانية. في الواقع، اجتاح الفن الذي مارسه على نحو تام مجرى عيشه اليومي إلى حد أن كتـّاب السيرة الذاتية، الذين رغبوا في كتابة سيرته، لم يجدوا في حياته غير أحداث ووقائع قليلة قابلة للتدوين. هذا لا يعني أنه " عاش” من أجل فنه، بل على العكس، فنه كان تعبيرا عن تلك الحياة، والذي يتضمن نبضها وانتقالاتها المتواصلة. كان هذا الفن متحدا مع حياته على نحو وثيق.عند نشر كتابه الشعري الأول "شظايا الجنة”، الذي ضم قصائد كتبت أغلبها ما بين 1915 و 1918 وجمعت العام 1924، لم يقدم من المعلومات عن نفسه غير هذه الكلمات الوجيزة: "بيير ريفردي، ولد في ناربون في 13 سبتمبر 1889م. لا سفر، لا مغامرات، لا تاريخ.. لكن يا لها من قصص”.إن قراءة سريعة، أو اختيار عينة من شعره، أمر يضلل القارئ كلياً: فالمرء قد يتخيل كائناً أثيرياً، سماوياً، شمالياً في سوداويته، واهنا بسبب ما يحلمه، بعينين يترقرق فيهما سديم الرؤيا، مطمئناً فقط في الجو السديمي لمدن يتمازج فيها الضباب والدخان وأرياف غائمة. إن رهافة ودقة لغته المجازية توحي بحضور كائن سهل الانقياد، مندمج تقريبا، وهمي كما السراب المتأصل في أعماله. مع ذلك، هذه هي مجرد الخطوة الأولى لفهم ريفردي وعالمه الشعري، كما إنها النقيض لما تمثله ذاته الحقيقية.في الحقيقة، كان ريفردي شخصاً قصير القامة وقوياً. ليس شاحباً أو واهناً بل متقد المظهر. ليس رشيق الحركة لكن كثير النشاط. ليس طليق الكلام وسلس الإيماءة لكن يحمل طاقة فعالة وغير متوقعة. صريح ومباشر في هدفه، حيوي وشديد الحساسية في عزمه وتصميمه. ليس نتاج السديم بل نتاج أشعة شمس حارة تشع على مسقط رأسه في الحوض المتوسط.إن قراءةً أعمق لأعماله تكشف عن كثير من عالم الأشياء والكائنات، المادي والملموس، كثير من صلابة الأشياء مع أوضاع دقيقة، مع أنها غير مقبولة. العالم في ما وراء الطبيعة، أعني، تحوّل العالم المادي الذي أنتجه التوق الشديد إلى صوفية مرهفة ومعزّزة طوال حياته. عالم جذوره في السماء ويداه في الطين.الحقيقة الرئيسية المتعلقة بالسيرة الذاتية والفنية في حياة ريفردي كانت الصدمة التي أحدثها موت والده وهو في سن العشرين. ليس فقط الرجّة العاطفية من جرّاء فقد الكائن الأعز في حياته، لكن أيضا الواقع المادي الرهيب للتحوّل بين حالة الحياة وحالة الموت، فجائية التغيّر والتضمينات اللامتناهية التي تقترحها له في ما يتصل بالأساطير المرتبطة بالخلود، في ذلك اليوم وإلى الأبد، بعد أن كان ممسوساً بالفكرة الراسخة في الذهن والرهيبة عن العدم. لقد إنهار منزله الروحي المبني من ورق اللعب، ومنذ ذلك الحين فصاعداً، لم يعد مجدياً، بل بات أمراً مضللاً، الحديث عن الصوفية الدينية أو الإيمان العقائدي عند الشاعر ريفردي.مع ذلك، فإن فقدانه للإيمان كان بداية روحانيته الحقيقية التي، في أعماله الشعرية كلها، هي متضمنة على نحو لا ينفصم ولا سبيل إلى الخلاص منه. وفي لحظة تخليه عن إيمان طفولته، شعر أن الإيمان بالنسبة إليه بديل مؤقت في نموه الروحي. بدا له أن الإيمان نهاية أزمة، لذلك هو غير متجانس مع طبيعته وحاجته للبحث الشاق الذي لا يلين. الفقد، في الواقع، كان كسباً. الماوراء قد ضلّ هدفه المحدد، ممتداً نحو شيء أكبر، حتى صار هذا الماوراء، من الآن فصاعداً، " كل ما هو خارج الجلد المشدود بإحكام حول أجسامنا”. لقد اختار "الأسى الميتافيزيقي”، الذي نشأ بدافع فقدانه الشخصي لأبيه وللخالق، ليس شفقة على الذات بل كباعث في اتجاه العظمة: "ليس ضعفاً بل على العكس تماماً، علامة قوة ومنزلة رفيعة، ذلك لأن كل نفس محاصرة قادرة، من الآن فصاعداً، أن تعتمد على نفسها فقط في التغلب على هذا الحصار”.فقدان الإيمان هو بداية شجاعة روحية بالنسبة لريفردي. إنه يقر بحقيقة أن الموت هو العدو الأعظم للإنسان، العدو الذي لا يُقهر. لكن هذه الحقيقة لا تخلق لديه الإحساس بالهزيمة ولا بازدراء تهكمي. ازدراء الموت سيكون مصحوباً بازدراء الحياة، ومع أنه يعترف بالأساس التراجيدي للحياة، إلا أنه يرفض أن يزدري العيش. الخيار هو تحويل الحياة ضمن العدد المحدود من السنوات المخصصة لنا، وكيفية التحويل سيصبح موضع انشغال كامل طوال حياته وعمله.أعمال ريفردي مغمورة ببحثه الميتافيزيقي. وإذا كان قد أصبح كاتباً فذلك لأن الكتابة كانت الوسيلة الوحيدة للتعبير التي وجدها تحت تصرفه في لحظة اليقظة الروحية. ولو أنه تدرّب في الفن (مثل والده)، أو في الموسيقى، لكانت اتصالاته الشعرية بالعالم الفيزيائي متمثلة بسهولة في الخطوط أو العلامات الموسيقية (النوتات).