عماد المختار

أجمع الأخصائيون النفسيون والاجتماعيون والتربويون عبر تاريخ المجتمعات البشرية على أهمية المعلم الإنسان في ترسيخ القيم التربوية والتعليمية؛ لأنها أساس تكوين شخصية المتعلم وبلورة مواقفه ومبادئه في الحياة، إذ يعتبر ابن خلدون أن التربية على القيم والمثل تترك أثرا حاسما في نفوس النشء، يقول في ذلك: "البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلونه من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقيا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا". وهو صياغة لمنهاج تربوي صادر عن تشبع قوي بعقلانية ترى أمر التربية من مناظير نفسية واجتماعية ومنطقية، أفادت منها التربويات الحديثة والمعاصرة. والمهم، في مفتتح السنة الدراسية الجديدة أن تستذكر الأطراف المسؤولة عن الشأن التربوي وتعدل أوتارها وتغير توجهاتها، وتتقلد مهامها في خلق أجيال مبدعة، ومشبعة بروح الحياة، ومنسجمة مع طموحات المشروع الإصلاحي والتنمية المستدامة 2030 بمملكة البحرين.

ولما راهنت مختلف المجتمعات على دور المربي في هذا التكوين والبناء والتطوير، ليس بوصفه حامل الرسالة التربوية ومبلغها الأول فحسب أو كونه المثل الأعلى للناشئة فقط، وإنما هو بتعبير أحمد أمين "ناسك انقطع لخدمة العلم كما انقطع الناسك لخدمة الدين"، فلا بد أن ينتبه هذا المربي الفاضل لشرطين متلازمين في التربية والتعليم، هما من منظور ابن خلدون: الشرط الأخلاقي السلوكي، والشرط التعلُّمي المنهجي.

أولا أصر ابن خلدون على الشرط الأخلاقي السلوكي، لئلا تنتقل من المربي صفة سيئة أو يتسرب خلق رديء إلى طلابه، وقد دعا إلى التركيز على إنسانية المتعلم كقيمة قصوى للتحرر من أغلال الجمود والتعالي، لأن في محاورة الطلاب والإنصات إلى مشاغلهم، وتطييب خواطرهم والاستجابة إلى تطلعاتهم، بقدر ما هي من صميم العملية التربوية، وجزء من مهام المربي، لأنها تحقق التفاعل الصفي وإنجاح المواقف التعليمية، فيندفع المتعلمون بثقة ومسؤولية، هي كذلك رسالة إنسانية نبيلة يوجهها المربي إلى طلابه، رسالة تشعرهم بالأمن النفسي، وتعلمهم قيم الإحساس بالمتعلم الإنسان وليس كشيء من أشياء البيئة الصفية، وتثبت فيهم قيم المحبة والتواضع والتفاعل وغيرها من القيم المحمودة المطلوبة في البيئة المدرسية والمجتمعية، ولأن في عمق هذه الرسالة بناء إنسان حر ومريد ومبدع، ولا أحد يرضى أن ينشأ ابنه على الخوف والقهر، أو يتسرب في وعيه أو لاوعيه مجموعة سلوكيات مرذولة، تتفجر على المدى البعيد سلبا، في شخص مأزوم ومعقد. يقول ابن خلدون: "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن". فمرد نبذ العنف بمختلف أشكاله في التربية عند ابن خلدون يعود إلى أسباب قيمية وأخلاقية بالأساس؛ لأن العنف الذي تكون غايته الإذلال لا ينتج مواطنا صالحا يخدم مجتمعه بصدق وإخلاص لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل يصنع إنسانا ميالا للكذب، مقداما على الكسل، شغوفا بالدناءة، مهرولا للخبث، وسريعا للزور، وهذا كله يعطل بلوغ القصد التعلمي بل يهدم أسسه ويقوّضها، وأفضل المعلمين من يدرّسون لطلابهم من قلوبهم.

وثانيا أكد ابن خلدون على الشرط التعلّمي المنهجي، حتى لا ينتهج بهم طريق تلقين المعرفة وشحنها بالتحفيظ المجاني، لأن الحفظ ليس غاية في ذاته، وإنما هو مهم في منظومة التربية متى تم توظيف المحفوظات في حل المعادلات العلمية والمقالات الأدبية لتكون وسيلة استدلال علمي وحجة قولية لموقف يدعمه أو رأي يدحضه. وعلّة ذلك أن الفكر المشحون والمتروس عبر التلقين والتحفيظ المجاني، يقتل روح الإنسان العاقل والمريد والحر في عند الطالب، لأن الحفظ في نظر التربويين حين يتحول إلى قيمة يحدث ضررا كثبرا بالمجتمع ويعطل روح الإبداع ويخنق طاقاته الإيجابية، وحينها يتحول العلم إلى مجال للتنافس في التقليد الباهت ويعيد إنتاج نفس الأقوال والأفكار بطريقة فيها كثير من المسخ، بل أكثر من ذلك، أنه بهذه الطريقة في الشحن والتلقين والتقليد والتحفيظ نقتل في نفس الطالب روح الإنسان، وبالنتيجة لا خير في تعلّم نشط لا يتجه إلى تقوية ملكة الفهم والإدراك، وقد علل ابن خلدون ذلك بكون النفوس ميالة إلى التقليد تواقة إلى جني ثمرات التعليم، وقد يتلازم عجزها عن قطاف الثمار بالنفور من مادة التعليم يقول: "ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام".

كما عليه أن ينتهج سبل تيسير الفهم والإدراك، ويتدرج بهم من الملاحظة والاستكشاف نحو التحليل والتقييم ثم التعليل والاستنتاج، مراعيا سلما معرفيا ومجموع الفروقات الفردية في التحصيل والتفاعل، ومنعا للعجز عن قطاف الثمار بالنفور من مادة التعليم، يقول ابن خلدون: "اعلم أن تلقين المتعلمين للعلوم إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا يلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك كله قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن".

ذلك هو المعلّم الإنسان.. متى تلازم فيه الشرطان الأخلاقي السلوكي والتعليمي المنهجي وُفّق في تكوين شخصية المتعلم تكوينا قويا، بما يتركه في فكر المتعلمين ووجدانهم من آثار عميقة لا تنسى، "فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب"، ووجدان متمثل لقيم المواطنة الصالحة. وحينها فقط يكون المربي الموهوب قد حقق غايات المجتمع في صناعة الإنسان الذي ينهض بأعبائه ومسؤولياته نحو نفسه ومجتمعه، إنه إنسان متقد الذهن ومحسن التصرف في المواقف التعليمية، كما في المواقف الحياتية.

ذلك هو المعلم الإنسان.. قدوة لا تنسى.. وقل لي من علمك أقول لك من أنت؟