قصة قصيرة - محمد بوحسن
أخذ يتصبب عرقا حتى غدا متشنجا. لم تعد لديه القدرة على التوازن. حاول زاحفا حتى اقترب من باب غرفته. انتفض صارخا.. أنا لست عاجزا، لست عاجزا، افتحي الباب. افتحي الباب. سأثبت لك أنني لست عاجزا ولتعلمي أن لدي القدرة على تحقيق كل رغباتك. نعم صدقيني لقد أصبحت إنسانا آخر. نعم إنسان آخر. أرجوك افتحي الباب لقد تعبت وتهاوى جسدي النحيف من ذلك الألم اللعين الذي يعصف بي كل يوم، فقط افتحي الباب.
باءت محاولاته بالفشل حتى عاد أدراجه. رفع رأسه محدقا في تلك الصورة المعلقة أمامه، نظر إليها، تأملها جيدا، لم يعد يتذكر شيئا من تلك الملامح ثم بقي صامتا. حاول النهوض، لم يستطع، حاول مرة أخرى لكنه فشل أيضا. عاود قراءة الصورة مرة أخرى مستعينا بالنور الذي يخترق المكان لعله يكتشف شيئا من أسرار أو ملامح تلك الصورة المعلقة، التي بدت انعكاسا آخر في ذاكرته. يئس من ذلك فأخذ يطل من النافذة ، ارتسمت ملامح الطريق الذي كان يقطعه راجلا كل يوم أثناء ذهابه للمدرسة وعلى الطرف الآخر دكان الحاج منصور.
تذكر جيدا ذلك الكرسي الخشبي المتآكل ذا اللون الباهت في زرقته، الذي كانا يجلسان عليه هو وصديقه سمير في الصباح وهما يتناولان ماعونا من "الباجلاء" التي تعدها أم محمد زوجته الثانية عند ذهابهما للمدرسة. كانا دائما يمزحان معا وهما يتغنيان بأغنيتهما الأثيرة "عمي يبياع الورد.. عمي يبياع الورد.. كل الورد زين.. كله.. كل الورد زين.. كله". حتى يصلا إلى المدرسة ويجلسان على مقعديهما الدراسيين.
لم ينس الصف ووجوه زملائه الطلبة الذين كانوا معه حتى افترقا بعد تخرجهما. لم تبق إلا الذكريات بينه وبين صديق عمره. كان ذلك راسخا في مخيلته. تذكر حين كانا يسألان بعضهما البعض عن أمنياتهما بعد التخرج. في لحظتها فضل أن يكون مديرا لأحد البنوك.
كانت تلك أمنيته، لكن الأقدار رمت به بعيدا عن حلمه لتقعد به هنا بين هذه الجدران. عاد لمكانه فالتفت للخلف. لم تعد تفارقه ملامح تلك الصورة وهو يتأملها بين حين وآخر. رغم معاناته وتشنجاته التي أقعدته، حاول طرق الباب ولكن دون جدوى. استند إلى الجدار مسترخيا وهو ينظر لبقعة النور تنتشر في أرجاء المكان. أخد يحتضن كل ما حوله، مما جعله يشعر بأنها هي التي ساقته للمكان الذي هو فيه وهي التي قادته للمجهول.
كان يحاول الانتقام منها لكنه لا يستطيع لأنه بات مشلولا. شعر بحركة ما خارج الغرفة، تخبط وصوت يتصاعد صداه بين وقت وآخر. تبسمَ محاولا النهوض على أمل أن يُفتح الباب مخاطبا نفسه.. قلت لك أنك ستعودين لا محال. تحسس الصوت جيدا لم تعد هي، صرخ ثانياً بندم.. أنت حقيرة، حقيرة، كنت أحتقرك ومازلت، أستغفر الله.. تجاهلك لي لن ينفعك أبدا ولن يغفر لك خطيئتك.
عاد يتشبث بكل ما حوله عسى أن يجد مخرجا أو معينا يستعين به. حتى رفقاء دربه لم يعودوا يسمعون صوته، ليعود مطلا مرة أخرى من تلك النافذة. الطريق لم يعد الطريق الذي كانا يمران منه. الطريق معبد مزدحم بالمارة والمباني التجارية. لفتت انتباهه وهو يطل من نافذته، امرأة كبيرة في السن تقف بجوار البيت. فجأة أخذ يناديها.. أم ناصر، أم ناصر، أرجوك أم ناصر، ها .. أم ناصر. لكن أم ناصر ماتت. نعم ماتت بعد وفاة أبي بشهرين. رحمك الله يا أبي كم كنت عطوفا وحنونا معي. شعر حينها بذلك الحب والحنان الذي افتقده من أقرب الناس إليه وهو بين تلك الجدران التي ابتلعته. شعر بأنه إنسان ولا بد أن يكون إنسانا محترما عند أهله ومجتمعه. وعليه أن يخرج من زنزانته مهما كلفه الأمر، ولكن كيف وهو عاجز عن الحركة؟!. حتى صديق دربه سمير الذي كان له عونا حاضرا، ما عاد يسأل عنه. أخذ يلملم جسده خوفا من البرد القارس.
نسمات باردة وممطرة تخترق لحمه. تيار الهواء في تصاعد مستمر. لم يعد يتحمل جسمه شدة البرد الذي تسلل من تلك النافذة التي كانت مفتوحة وقوة الرياح العاصفة بالمكان الذي يحتويه. حاول النهوض ليغلق النافذة إلا أن الهواء كان قويا فبدأ يعصف بالمكان. تناثرت بعض الأدوات الموجودة حوله حتى سمع صوت سقوط شيء ما.
التفت وراءه، وإذا بالصورة المعلقة سقطت على الأرض وتناثر زجاجها لتزيل تلك العتمة من عليها. عاد مسرعا ليحتضن الصورة بعد أن بدت معالمها واضحة.
احتضنها بقوة حتى غفت عيناه وهو ممسك بها. عانقها طويلا وهو يقبلها وكأنه في تلك الغرفة التي جمعتهما لأول مرة وإلى جانبه طفل يبتسم. نهض سريعا قاصدا باب غرفته رآه مفتوحا على مصراعيه، لكن المكان خال لا أحد فيه. وقف صامتا، أجهش بالبكاء، وسقط على الأرض.
أخذ يتصبب عرقا حتى غدا متشنجا. لم تعد لديه القدرة على التوازن. حاول زاحفا حتى اقترب من باب غرفته. انتفض صارخا.. أنا لست عاجزا، لست عاجزا، افتحي الباب. افتحي الباب. سأثبت لك أنني لست عاجزا ولتعلمي أن لدي القدرة على تحقيق كل رغباتك. نعم صدقيني لقد أصبحت إنسانا آخر. نعم إنسان آخر. أرجوك افتحي الباب لقد تعبت وتهاوى جسدي النحيف من ذلك الألم اللعين الذي يعصف بي كل يوم، فقط افتحي الباب.
باءت محاولاته بالفشل حتى عاد أدراجه. رفع رأسه محدقا في تلك الصورة المعلقة أمامه، نظر إليها، تأملها جيدا، لم يعد يتذكر شيئا من تلك الملامح ثم بقي صامتا. حاول النهوض، لم يستطع، حاول مرة أخرى لكنه فشل أيضا. عاود قراءة الصورة مرة أخرى مستعينا بالنور الذي يخترق المكان لعله يكتشف شيئا من أسرار أو ملامح تلك الصورة المعلقة، التي بدت انعكاسا آخر في ذاكرته. يئس من ذلك فأخذ يطل من النافذة ، ارتسمت ملامح الطريق الذي كان يقطعه راجلا كل يوم أثناء ذهابه للمدرسة وعلى الطرف الآخر دكان الحاج منصور.
تذكر جيدا ذلك الكرسي الخشبي المتآكل ذا اللون الباهت في زرقته، الذي كانا يجلسان عليه هو وصديقه سمير في الصباح وهما يتناولان ماعونا من "الباجلاء" التي تعدها أم محمد زوجته الثانية عند ذهابهما للمدرسة. كانا دائما يمزحان معا وهما يتغنيان بأغنيتهما الأثيرة "عمي يبياع الورد.. عمي يبياع الورد.. كل الورد زين.. كله.. كل الورد زين.. كله". حتى يصلا إلى المدرسة ويجلسان على مقعديهما الدراسيين.
لم ينس الصف ووجوه زملائه الطلبة الذين كانوا معه حتى افترقا بعد تخرجهما. لم تبق إلا الذكريات بينه وبين صديق عمره. كان ذلك راسخا في مخيلته. تذكر حين كانا يسألان بعضهما البعض عن أمنياتهما بعد التخرج. في لحظتها فضل أن يكون مديرا لأحد البنوك.
كانت تلك أمنيته، لكن الأقدار رمت به بعيدا عن حلمه لتقعد به هنا بين هذه الجدران. عاد لمكانه فالتفت للخلف. لم تعد تفارقه ملامح تلك الصورة وهو يتأملها بين حين وآخر. رغم معاناته وتشنجاته التي أقعدته، حاول طرق الباب ولكن دون جدوى. استند إلى الجدار مسترخيا وهو ينظر لبقعة النور تنتشر في أرجاء المكان. أخد يحتضن كل ما حوله، مما جعله يشعر بأنها هي التي ساقته للمكان الذي هو فيه وهي التي قادته للمجهول.
كان يحاول الانتقام منها لكنه لا يستطيع لأنه بات مشلولا. شعر بحركة ما خارج الغرفة، تخبط وصوت يتصاعد صداه بين وقت وآخر. تبسمَ محاولا النهوض على أمل أن يُفتح الباب مخاطبا نفسه.. قلت لك أنك ستعودين لا محال. تحسس الصوت جيدا لم تعد هي، صرخ ثانياً بندم.. أنت حقيرة، حقيرة، كنت أحتقرك ومازلت، أستغفر الله.. تجاهلك لي لن ينفعك أبدا ولن يغفر لك خطيئتك.
عاد يتشبث بكل ما حوله عسى أن يجد مخرجا أو معينا يستعين به. حتى رفقاء دربه لم يعودوا يسمعون صوته، ليعود مطلا مرة أخرى من تلك النافذة. الطريق لم يعد الطريق الذي كانا يمران منه. الطريق معبد مزدحم بالمارة والمباني التجارية. لفتت انتباهه وهو يطل من نافذته، امرأة كبيرة في السن تقف بجوار البيت. فجأة أخذ يناديها.. أم ناصر، أم ناصر، أرجوك أم ناصر، ها .. أم ناصر. لكن أم ناصر ماتت. نعم ماتت بعد وفاة أبي بشهرين. رحمك الله يا أبي كم كنت عطوفا وحنونا معي. شعر حينها بذلك الحب والحنان الذي افتقده من أقرب الناس إليه وهو بين تلك الجدران التي ابتلعته. شعر بأنه إنسان ولا بد أن يكون إنسانا محترما عند أهله ومجتمعه. وعليه أن يخرج من زنزانته مهما كلفه الأمر، ولكن كيف وهو عاجز عن الحركة؟!. حتى صديق دربه سمير الذي كان له عونا حاضرا، ما عاد يسأل عنه. أخذ يلملم جسده خوفا من البرد القارس.
نسمات باردة وممطرة تخترق لحمه. تيار الهواء في تصاعد مستمر. لم يعد يتحمل جسمه شدة البرد الذي تسلل من تلك النافذة التي كانت مفتوحة وقوة الرياح العاصفة بالمكان الذي يحتويه. حاول النهوض ليغلق النافذة إلا أن الهواء كان قويا فبدأ يعصف بالمكان. تناثرت بعض الأدوات الموجودة حوله حتى سمع صوت سقوط شيء ما.
التفت وراءه، وإذا بالصورة المعلقة سقطت على الأرض وتناثر زجاجها لتزيل تلك العتمة من عليها. عاد مسرعا ليحتضن الصورة بعد أن بدت معالمها واضحة.
احتضنها بقوة حتى غفت عيناه وهو ممسك بها. عانقها طويلا وهو يقبلها وكأنه في تلك الغرفة التي جمعتهما لأول مرة وإلى جانبه طفل يبتسم. نهض سريعا قاصدا باب غرفته رآه مفتوحا على مصراعيه، لكن المكان خال لا أحد فيه. وقف صامتا، أجهش بالبكاء، وسقط على الأرض.