نص – أمين صالح
آه لو يطل وجه حبيب لم يره منذ أمد! لو يطل سنجاب، أو تدخل فراشة! ليس هذا كثيرا على من تشققت بشرته وهو يصارع عزلته وحيدا وأعزل من كل شيء. يهفو إلى صوت أليف لا قسوة فيه، لا خشونة، لا تهكم، لا بذاءة.. صوت وديع يسري كماء زلال في الشرايين فيرطب القلب ويرد له العافية.
ليت قوس قزح يمتد من الطرف الآخر إلى هنا فيعبره ركضا ليصل إلى مملكة بوابتها المطر وطرقاتها أغصان الشجر. ليت له دهاء النبات ومكر العنادل. ليت له ما للحلم من سطوة على الصور وعلى عالم يعيد تشكيل نفسه بين اللحظة والأخرى.
ثمة سقف متحرك، ينخفض تارة ويرتفع تارة لكنه يظل معلقا، لا ينفتح. يتمنى السجين أن ينفتح ليرى ما يوجد هناك في سماء أمست، منذ أن أحضروه إلى هنا، خفية، مجهولة، عصية على الإمساك.
الآن، عندما يحدق في السقف بعينين مغمضتين، يرسم مدى سماويا لا حد له، فيه تتفجر الألعاب النارية في مرح صاخب وتنثر شررها على أرض تتفتح مثل وردة ما إن تتبلل بنثارات زوارق عابرة تتسرب من أخشابها فكاهات الموج. ويكاد أن يلمس أذناب تلك المذنبات المنفلتة، في عبث طفولي، من مجراها الطبيعي، الراكضة في فضاء المشهد بلا كابح. ويرسم بلاداً تصحو من غفوتها وترد عن شعبها خطايا جناة أسرفوا في البطش. ويرسم وجهاً حبيباً ويبكي. يرسم ويبكي ثم يرسم ويبكي.
يجس نبض الحجر. للحجر عروق وأوردة وأنسجة تخفق، تنبض، تتدفق فيها عصارة لها طعم العرق ونكهة الدمع. دقات أشبه بدقات القلب. يجس فيشعر بارتعاشة تعتري السطح الكلسي. ها هنا روح تعتكف داخل الجماد. حياة أخرى لا زمن لها.
تبتل راحتاه بعرق الخوف والهجس، هذا المحروم من المطر، من ندف الثلج، من المشي حاسراً وحبات البرد تربت بخفة على كتفيه. كم يفتقد الصحبة ويحن إلى المعاشرة. كم يهفو إلى يد الأنثى وفم الأنثى وقلب عاشقة تفتح له كل ما انغلق في وجهه وتدعوه: تعال. اخلع نعال الهزيمة واتركها عند الباب وتعال. دع جرحك عند العتبة وتعال. اغمس رغيفك في حساء المحنة وتعال.
بلا تريث ولا تباطؤ يذهب، فلا يقبض بكفه إلا على سراب يتملص منه مثلما يتملص الأفق من تخومه، ويجد نفسه لا يزال في الحومة، غائصاً حتى خاصرته في رمل متحرك، فيئن، هذا الجسم الضامر يئن من فرط الفقد والهجر. كم هي بطيئة الدقائق هنا، بطيئة وفاترة ولامبالية.
يفسح للأرق مكاناً بين جفن وجفن على سرير يهوي به نحو حضيض الضجر، والأرق يستحضر أطياف من مروا هنا على عجل أو على مهل حاملين تهما مهلهلة ورافعين أحكاماً جزافية. أطياف من بعثروا خطواتهم المتأنية على غبار المكان وتاهت وجوههم بين آهة تعذيب وآهة حنين إلى منزل يجرفه الأمس بعيداً. أطياف من تركوا جراحهم النازفة على قارعة النهار ودلفوا خفافاً بهو الظلام الغامض حيث الفكاهات الملتبسة تحتار بين أن تستل ضحكاً أو تستل بكاء، وحيث المجهول يسحل من يطرق بابه. أطياف من توسدوا لهب الانتظار المسرف في طغيانه، وتوهموا، في ساعة بلوغ ذروة اليأس واشتباك التأويل مع التأويل، أن زائراً يقرع الجرس جاء ليدثرهم بالحنان وبأصابعه الحكيمة يؤجج جذوة الأمل في صدورهم.
يشتهي حضور الولائم عرساً عرساً وسوف لن يتعفف. يشتهي أن يرى من يهواها في أبهى صورة تشعل له المساء بنورها وتنسج بخيوط الحب رداء يستر ندوبه وآن تحط أناملها على جبينه المطفأ تضاء حواسه كلها وتعتريه البهجة.
يشتهي أن يهرب قبلاته، داخل فرو صباح بردان، إلى أهله وأحبابه. يشتهي أن يستلقي على أعشاب طرية، مبللة برذاذ أمومة تنتحل شكل شجرة، قرب بحيرة تتنزه عند مداخلها إوزات مشعة وبط يهرول في جذل.
يفتقد التبغ ودخان التبغ وجرعة من الكحول وطاولة ملساء السطح وصديقاً يتحادث معه همساً وأطباقاً من الزيتون والخضار والمكسرات يتناوبان على تناولها بعد كل رشفة ورائحة الحانة والإضاءة الخافتة وضوضاء الرواد والمشاحنات الأليفة. يفتقد تلك اللحظات فتدمع عيناه.
(جزء من رواية "المياه وظلالها")