محرر فضاءات أدبية
خلافاً للمقولة الشائعة التي تقدم الكينونة على الكلام، فتقول: "الإنسان كائن متكلم"، الإنسان عند المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان "متكلم كائن".
وخلاصة هذا المبدأ كما يوضحه الناقد الأستاذ الدكتور أستاذ اللسانيات الحديثة بجامعة البحرين د.منذر محمد عياشي هي: إن الإنسان اللاكاني إنسان مسبوق وجودا بوجود الكلام. ولذا، فهو حين يولد يكون مولده في عالم كلامي، تملأه العلامات اللسانية التي بها ينجز وجوده وكينونته تواصلاً مع الكينونات الإنسانية الأخرى وتمايزاً مع الكينونات الإنسانية الأخرى في الآن ذاته، والتي بها سيكون نماؤه معرفة، وتطوره عقلاً، وحضوره وجوداً.
ورد ذلك في الورقة التي قدمها د.عياشي، مؤخرا، في مؤتمر قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية الثاني "المفاهيم والنصوص" بجامعة البحرين ".. قراءات تطبيقية في ضوء تضايف العلوم".
علاقة وثيقة
يقول د.عياشي: إنه مما لا شك فيه، أن العلاقة بين التحليل النفسي والتحليل اللساني للغة علاقة وثيقة ومركبة في الآن ذاته: – أما وثيقة فلأن الظاهرة النفسية "أو ما يسمى العرض" لا تعبر عن ذاتها بذاتها، ولكن تعبر عن ذاتها باللغة التي تنقلها من حالة العماء التي هي فيها إلى حالة الوجود الذي تصير فيه، وتقوم جسرا واصلا بين مرسلها "المريض المفترض" ومتلقيها "المحلل النفسي". – وأما مركبة، فلأن المحلل النفساني "أو المتلقي" لا يقرأ نفس المريض من خلال قراءة الظاهرة، ولكنه يقرأ الظاهرة لغة وبوساطة اللغة التي تقولها. ولقد يعني هذا، إذن، أنه لا يتعامل مع الموضوع الذي هو المريض المفترض مباشرة، ولكنه يتعامل مع البديل اللغوي الذي ينوب به المريض عن نفسه في قول نفسه وما فيها.
ويضيف المحاضر: وهكذا نرى أن المريض يتحول إلى نص لغوي إذ يتكلم، وأن المحلل النفسي يتحول إلى محلل لساني إذ يقرأ ما يسمع. بيد أنه إذا تساءلنا لم كان ذلك كذلك، فلأن أصولية البحث العلمي لا تتم حدوثاً إلا استناداً إلى هذا الإجراء التحويلي من جهة، ولأن الدرس السيميائي واللساني "وهما أم العلوم في عصرنا" يخبرانا أنه ما من شيء في هذا الوجود إلا وينظر إليه بوصفه علامة من جهة أخرى. والتحليل النفسي، شأنه في ذلك، شأن كل العلوم: إنه لا يخرج، علمياً، عن منطق كل العلوم في هذا العصر. فالنفس، من منظور لساني وسيميائي، هي علامة لا تقول ما هي، ولا تقول ذاتها بنموذج واحد، ولا بسمت واحد، ولا بصفة واحدة. ذلك لأنها تجليات، وهي بوصفها كذلك لا تقول جوهرها، ولكنها تقول شيئاً آخر يدل عليها.
ويواصل القول د.عياشي: ولقد نقول أيضاً أنه إذا كان يمكن قراءة العلامة تأويلا، فإن هذه القراءة لا يمكن أن تتم إلا عبر وسيط لغوي. وإذا كان هذا هكذا، فإن النفس تبقى مغاليق لا تفتح، وكبتا لا يفصح إلا إذا يسر لها، فيظهر، والحال كذلك، منها غرض. وإذ ذاك فإنها تصبح دالا يستدل به ومدلولا يضيء به هذا الدال بقراءة تؤوله وترسم له معالم كينوته. ولقد يعني هذا من منظور لساني وسيميائي، أن المحلل هو الذي يحول العرض، وفق قانون أصولية الإدراك وحدوثه، إلى علامة ويؤولها، أي أنه لا يقرأ النفس كينونة وجوهراً، ولكنه يقرأ العلامة اللغوية التي تمثلت بها وحلت بوساطتها بديلا عنها في الكلام. ولهذا، كان "لاكان" يقول عن تعليم التحليل النفسي بأنه "اللغة ولا يوجد شيء غيرها".
حجر رحى
وإذا كان "جاك لاكان" يرى ذلك، فما كان هذا منه إلا عن مبدأ اتخذه حجر رحى، ربما أراد أن يصحح به الفكر الإنساني، وأدار عليه كل عمله التنظيري في التحليل النفسي، والفكري، والفلسفي. ولقد تجلى هذا المبدأ عنده في مصطلح سكه في الفرنسية نحتاً مركباً من كلمتين دغمهما، هما "parler" أو "etre"، أي " parlete"، وما نترجمه محاكاة له بمصطلح مدغم من كلمتين، هما "متكلم" و"كائن" فنجعلهما وحدة لغوية واحدة في الكتابة، هي "متكلمكائن". وهو إذ فعل ذلك، فتوصيفا للإنسان كما يراه في ترتيب حدوثه وحصوله وخلقه، وذلك خلافا للمقولة الشائعة التي تقدم الكينونة على الكلام، فتقول: "الإنسان كائن متكلم"، في حين أنه عند لاكان متكلم كائن.
ويرى د.عياشي ومن منظور "لاكان" نفسه، أن العلاقة بين التحليل النفسي والتحليل البنيوي اللساني والسيميائي، تتمثل في أربعة نماذج من القضايا، هي: - النموذج الأول، وتقوم فيه العلاقة بين المريض المفترض واللغة. – النموذج الثاني، وتقوم فيه بين التحليل النفسي والعلم. وهذا العلم هو ما يسمى اللسانيات البنيوية. وبتعميم أكبر السيمياء والتأويل. – النموذج الثالث، وتقوم العلاقة فيه بين اللسانيات البنيوية والسيمياء من جهة، واللاوعي أو اللاشعور من جهة أخرى. – النموذج الرابع، وتقوم العلاقة فيه بين اللسانيات والسيمياء علماً والتحليل النفسي نظرية.