في سورة «البقرة» وتحديداً في الآية «44»، يخاطب الله عز وجل «بني إسرائيل»، قائلاً: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون».

هذه الآية الكريمة لربما رددناها كثيراً كبشر، وبالتأكيد سمعناها أكثر، وأجزم رغم ذلك، بأن كثيراً منا لم يتوقف عندها ليتمعن في مضامينها، بل ولم يقف مسائلاً نفسه، إن كان هو يتمثل بها أو لا!

في هذه الآية يقدم المولى عز وجل أحد طرائق تكوين «منهاج حياة» للفرد، خاصة حينما يتعامل في أوساط مجتمعه، بالنظر لتركيبة الإنسان المتجهة في شكلها الغالب إلى متابعة الآخرين من حوله، والمبادرة لدى أناس كثر لتقديم النصائح والإرشادات والمواعظ.

واليوم في زمننا هذا، كثر الناصحون والوعاظ ومقدمي الإرشادات، وذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث لا تجد تطبيقاً إلا ويتضمن من يقدم لك نصيحة، أو يشرح لك كيف تعيش حياتك، وبعضهم يخوض في أمور تفوق سنه، إذ بالتأكيد مرت عليكم مقاطع لأطفال في المرحلة الابتدائية إما يلقون شعراً فيه مواعظ، أو حكماً تتحدث عن أساليب تعامل مع ظروف المجتمع، لا تخرج إلا عن رجل خمسيني أو ستيني عركته الدنيا بتجاربها.

النصيحة ليست فعلاً ذميماً، بل على العكس، ديننا مقرون بها، فمثلما نقل عن رسولنا الكريم في أحد أحاديثه الشريفة التي يصف فيها الدين، بأن «الدين النصحية»، ولما سأل «لمن؟!»، أجاب: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، لكن المشكلة في عملية «استغلال» هذه النصيحة، لتجميل الذوات، بما يضلل الناس، ويخدع المجتمع.

نعم للأسف نقولها من باب ملاحظة، بأن عملية النصح والتنظير ماضية اليوم لتأخذ بعداً آخر، أصبح البعض يعتبرها «علبة المكياج» الخاصة به، بحيث من خلالها يتجمل على الناس، ويسعى لأخذ وضع معين مجتمعياً، أو يلمع صورته مهنياً، خاصة وأنك حينما تخضع صاحب النصيحة «الشفهية» للواقع «العملي»، ستجد أنه لا يطبق نصائحه للبشر على نفسه، وستجد أن تنظيره هو أول من لايؤمن بمضامينه.

أذكر موقفاً قريباً حصل يكشف لك «زيف» عملية التجمل، إذ كنت مع صديق في إحدى الفعاليات، وإذا بأحد المشاهير الذين يخرجون على الناس من خلال المنابر الإعلامية والتواصل الاجتماعي، ويطلون عليهم بوجه باش، ويقدمون النصائح والمثاليات والأدبيات الراقية. تحمس صديقي للذهاب والسلام عليه والتصوير معه، قائلاً بأنه من المعجبين بهذه الشخصية لإيجابيتها. ابتسمت وقلت له اذهب، وظللت أتابعه وأنا أتوقع ردة فعله، إذ بحكم تخصصنا الإعلامي وخبرتنا في هذا المجال، أعرف تماماً ماذا تعنيه كلمة «علبة الماكياج الإعلامية». عاد صديقي ووجهه متغير، سألته: «ماذا بك، هل صدمك شيء ما؟! هل تفاجأت من أمر ما؟!». أجابني بأنه استغرب من هذه الشخصية التي تخرج على الناس بشكل ودود، وتقدم النصائح والإيجابيات، وتدعو الناس للاحترام في التعامل، كيف أنه قابله ببرود وسلم عليه بأطراف أصابعه وبوجه متجهم، وحتى عندما طلب منه أخذ صورة لم يوافق على الفور!

ابتسمت وقلت له بأنني من فرط التجربة، خاصة مع من يبرزون إعلامياً عبر منصات عديدة، بت أعرف نوعيات كثير من البشر، خاصة ممن يتجمل في القول، ويلقي المواعظ والنصائح، وكل هذا في العالم «الاصطناعي» الذي يصنعه الإعلام ووسائله، بينما في العالم الحقيقي تجد النقيض تماماً.

خلاصة القول هنا، بأن من يقدم النصائح والمواعظ، من الأفضل لك أن تتحصل عليها -أي الموعظة- من خلال أفعال هذا الشخص، وما يقدم عليه من أمور تعكس مضامين هذه النصائح، لا من خلال شفتيه فقط، فالكلام بـ«بلاش»!