قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز... بسم الله الرحمن الرحيم
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾ [الرحمن]، وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعوذ بعزَّتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت))...
فكما الحياة حقيقةٌ وحق، فالموت حقيقة وحق... وهو نهاية كل حي، وختام كل شيء، وعاقبة كل موجود سوى ربّ الكون والوجود، الإله الواحد المعبود، فالكل سيموت، إلا الخالقِ ذا العزَّة والجبروت، فالموت طالب لا يَنفلتُ منه الهارب، ولا يُعجزه المقيم، وهو حكم شامل، وقضاء نافذ، وأمر محتوم لازم، لا مفر منه ولا مهرب، فالله تبارك وتعالى قد خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدَّة قصيرة، فكان ما بين أولها إلى آخرها ساعة من النهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها بالفناء، فقال عز وجلّ في كتابه الكريم: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(88)﴾ [القصص]... هذه هي سُنّة الله تعالى في خلقه... حياة تبدأ، وعمر ينقضي، وقصص تُحكى، وعِبر يُتّعظ بها، وحِكَم يُؤخذ منها، وتاريخ ممتد يُكتب وعمل وأثر يُسجّل... جيل وراء جيل، وأمة وراء أمة، ثم تأتي نهاية الآجال لكل إنسان ولكل مخلوق... ولعلّه قد صدق من قال...
إن الطبيبَ بطبِّه ودوَائه
لا يستطيعُ دفاعَ نَحْبٍ قد أتَى...
ما للطبيبِ يموتُ بالداءِ الذي
قد كان أبرأَ مثلَه فيما مضى...
مات المداوِي والمُداوَى والذي
جلبَ الدواءَ وباعه ومَنِ اشترَى...
ورغم كون العالم الذي يعيشه الإنسان يضج بالحياة، إلا أنّ الغصة هي نتاج ما بعد ذلك كلّه... إنها غصة الموت الذي لا بد منه لكل حيّ... وعليه فإن ثقافة الحياة لا تتبلور إلا باستيعاب القدرة على مواجهة الموت، وإدراك جزئية أن الموت يمثل فرصة لحياة أسمى... فالإنسان لن يقدر نعمة الحياة إلا إن تفهم أنّ ثقافة الموت تعني استمرارًا لحياةٍ لن تنقطع... فالحياة بكل تفاصيلها إنمّا هي ممر للآخرة، وما الدنيا إلا مزرعتها، وبإدراك أنّ ذلك كلّه يتأتى من حسن العمل وطيب الأثر؛ سوف تتضح ميزة الحياة بأنها لا تنقطع ولا تنتهي لأنها ترتبط بعقيدةٍ ترى في الموت استمرارًا للحياة... فالحياة وإن كانت مقفلة بخاتم الموت، إلا إنها في واقع الحال مستمرةٌ بحسن السيرة والإنسانية وصالح العمل، وبالتالي فالحياة هي رؤية مرتهنة بكونها فرصة لاستمرار ما بعدها، والموت هنا يصبح لصاحبه "ثقافة حياة لا تنقطع بعد الموت"...
وتدور عجلة الحياة، وتمضي الأيام والأسابيع والشهور... ويهل علينا شهر رمضان المبارك، وقد اعتدنا في كل عام أن يكون الوالد الشيخ عبدالله رحمه الله هو دومًا أول من يبشرنا بدخول الشهر الفضيل وذلك في بيان لهُ من خلال ترؤسه لهيئة الرؤية الشرعية لتحري هلال شهر رمضان المبارك... ولكن هذا العام حل شهر رمضان وحلّت معه ذكرى مرور عام على انتقال الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه إلى الرفيق الأعلى، وهو أول رمضان لنا بدونه رحمه الله... ورغم مرور الوقت تبقى لوعة الفراق حاضرًة في الوجدان ويبقى الموت بكلّ ما فيه من وحشة حق حتميّ وقدر قاسٍ لا مفرّ منه يأتي ليفرض سطوته على الجميع وينزع الفرح من قلوب الأهل والأحبة، ويغمر الأفئدة بالأحزان، ويترك في النفوس ذكريات عميقة تمتلئُ تفاصيلها بالأسى، وهو الوجه الآخر للحياة والسكين التي تنغرس في جنباتها لتتركها جسدًا يُوارى الثرى، ولا يملك الإنسان إلا أن يستسلم لحقيقته، وأن يعمل لأجله، وأن يترك خلفه أثرًا طيبًا، فالموت وإن كان ينزع الأرواح ويترك الأجساد هامدة تحت التراب، إلا أنه لا يُنهي العمل الطيب والسمعة الحسنة، ولا يمحو صالح الأعمال؛ ليبقى الإنسان علامةً على سطور الحياة، بما يحمله من وعي وإدراك لمعنى أن يكون على قيد الإنسانية في هذه الحياة، ومؤمنًا بأن الله الحي القيوم الذي يقهر عباده بالموت سيبعثهم من جديد لحياةٍ لا موتَ بعدَها أبدًا...
واليوم وبعد أن أصبح الموت واقعًا لا رجعة فيه... وفي ذكرى وفاة المغفور له بإذن الله تعالى الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة... فليس للنفس المفارقة لأعزتها إلا أن تستشعر معنى الغياب عندما تفارق روحًا عزيزًة عليها، وكأن الفناء هو الذي يحرك جميع الذكريات بأطراف أصابعه... فمازال وقع الرحيل شديدًا على المستوى العام والشخصي،، ومازال طوفان الحزن الجارف يكتسح أمامه كل آفاق التماسك والصبر، فقد فارق الحياة في يوم العشرين من شهر رمضان الماضي والدٌ حنون وسند متين وركن ركين يحمل المسؤولية ويحمي ويصون ويدعم ويعاون ويذلل الصعوبات بشجاعة وهمّة لا تعرف الوهن ولا الفتور، ويجري في عروقه تاريخًا عريقًا يرجع لأسرة كريمة وأجداد أفذاذ وحكامٍ عظماء لهم بصمات واضحة في تاريخ منطقة الخليج العربي، عاش بينهم وتربى في كنفهم واكتسب منهم خبرةً وحكمةً امتدت على مدى سنوات عمره التي عاصر في بداياتها أواخر حكم الشيخ عيسى بن علي ومن بعده الشيخ حمد بن عيسى والشيخ سلمان بن حمد والشيخ عيسى بن سلمان ومن ثم صاحب الجلالة الملك المفدى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه... وبذلك فقد لعبت نشأته الاجتماعية دورًا مؤثرًا وقويًا في تكوين ملامح شخصيته الفذّة، وألهمته قيم الرّجولة ومعانيها، وصقلت فطنته وذكاءه الفطري الحاد الذي كان يتمتع به... كما إن نشأته رحمه الله يتيمًا قد جعلته يدرك مصاعب الحياة وقسوتها منذ صباه، وذلك ما أضاف له العديد من الخصال التي امتزجت ببيئته البدوية الإسلامية وحفظه للقرآن الكريم فأضفت عليه زيادةً في الوعي والإدراك وقدرةً على الجَلَد والصبر، وجعلته ذا بصيرة وحكمة بالغتين، فكان طيب الله ثراه مستمعًا ومنصتًا جيدًا للحوار، يتسم بالصراحة والعفوية، ويتميز بالجرأة والشجاعة، فضلًا عن صفاء الفكر ورجاحة العقل وسرعة التصرف، وهو ما أهّله ليكون من كبار رجالات العائلة الحاكمة في مملكة البحرين، ورمزًا وطنيًا وإسلاميًا كبيرًا، ومن ذوي الاهتمام بالشأن الثقافي والعلمي، ومن أصحاب الخبرة المميزة في مجال التاريخ والثقافة الشعبية، كما تقلّد سموه رحمه الله العديد من المناصب وتولى العديد من المهام والمسؤوليات، وله مآثر ومناقب كثيرة وجليلة في العديد من المجالات كالقضاء والإدارة والتخطيط...
وإنه ليوم مشهود في حياتي وأنا أستذكر المغفور له بإذن الله تعالى الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه، الإنسان المحب لكل الناس، الكريم، المتواضع، الإنسان الذي عرفته عن قرب وتعلمت الكثير من خصاله ومزاياه، حيث شملني بعطفه الأبوي ومودته الصادقة ونهجه الإنساني فنال منّي كل الولاء والاحترام والتقدير والتفاني في خدمته وخدمة الوطن... ومازال ذلك الدرب الممتد والحافل الذي شرفني بالعمل لدى سموه لفترةٍ امتد زمانها لثلاثة عقود يحفل بالكثير، ما جعلني أتعلم وأكتسب منه الكثير من الخبرات الغنية في النواحي العملية والحياتية... كما إنّ تواجدي اليومي معه وحضوري لمجلسه العامر واستماعي لأحاديثه وحكاياه لأعوام طويلة؛ هيأت لي معايشة الكثير من مواقفه النبيلة ورؤية يديه الممتدتين دومًا بالعطاء جودًا وكرمًا في كل منحى من مناحي الحياة وللجميع دون استثناء... كما ولمست في عين الوقت إنسانيته الفريدة، وعمق نظرته المستقبلية، وذكاءه الفطري، وحكمته الأصيلة وقدرته الفذة على حل المعضلات واحتواء أصعب المواقف والأزمات، ففي أشد المحن برز الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد طيب الله ثراه ليؤدي أدواراً إنسانية مهمة، فيتوسط لإيقاف العوائق، ويسعى لحل المعضلات ويتدخل للتصرف في المنعطفات والأزمات... وذلك كلّه إلى جانب ولعه الدائم، وشغفه المستفيض بحب البحرين وأهلها، والعمل على كل ما من شأنه أن يرفع مكانتها ويحقق خيرها...
وها نحن اليوم وبعد انقضاء عام كامل على رحيل المغفور له بإذن الله تعالى الوالد سمو الشيخ عبدالله بن خالد طيب الله ثراه، والذي تصادف ذكراه العشرين من رمضان 1439هـ، لانزال نذكره بشجن كبير وحزن عميق، نتفكر في سجاياه وصفاته ومناقبه، ونستحضر خصاله وشمائله الإنسانية، ونستذكر صور قيمه ومبادئه التي جسدها وحرص عليها، والتي مازالت وستبقى حاضرًة أبدًا في قلوبنا حافزًا وقدوة وحقائق عامرة بالطيبة والمحبة والإخلاص... نراها حيةً في قلوبنا، كما نراها في أبنائه وذريته الكرام الذين تشربوا منه رحمه الله روعة خصاله وكرم أخلاقه، فهم خير خلف لخير سلف... ونجد الرصيد الإنساني لسموه رحمه الله حقيقة راسخة بحجم دوره... ورغم رحيله طيب الله ثراه إلا أنه مازال وسيبقى الغائب الحاضر دوماً بإنسانيته وسماحته وبشاشة وجهه وطيبة قلبه في قلوب جميع أحبابه ومعارفه... كان أبًا للجميع، أخًا للجميع، صديقًا مخلصًا وإنسانًا كبيرًا، متمثلًا بذلك نهج الغُر الميامين من الآباء والأجداد فأعطى من رصيده الإنساني ما سيبقى خالدًا على مر الأجيال... هكذا كان مفهوم الحياة التي عاشهاالمغفور له بإذن الله تعالى الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة إنها "ثقافة حياة لا تنقطع بعد الموت"...تغمده الله بواسع رحمته ورزقه صحبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنّة...
الدكتور خلدون علي أباحسين
باحث أكاديمي وكاتب