مجالس رمضان تتنوع فيها الأحاديث، وكلما كان المجلس «أقل رسمية»، ويجمع أشخاصاً هم أصدقاء وليسوا معارف في المناسبات كانت الأحاديث أبسط، ونسبة الجرأة في الطرح أعلى، والأجمل كلما كان «ابتكار» مواضيع النقاش مميزاً.

نعم، بعض المجالس التي تتميز بطابع «الحميمة» بين روادها تمتاز بأطروحات «فنتازية» وبعضها «مبتكرة» بصورة استثنائية، وبصراحة تشرفت بأن أحضر بعض هذه المجالس، والتي فيها مجموعة من أعز وأحب الأصدقاء إلى قلبي، واستمتعت بكثير من النقاشات التي تدور فيها، لدرجة أن هناك أفكاراً تتقاذف يمنة ويسرة، وآراء رائعة تصدر من أشخاص تحترم أساليب طرحهم وثقافتهم، وكثيراً ما استفاد قلمي مما يطرحونه من رؤى، قد يكفيك منها رأس قلم، حتى تخرج بمقال يتضمن فكرة قيمة، يمكن أن تفيد به المجتمع.

عموماً، من الأفكار الغريبة التي طرحت مؤخراً في أحد هذه المجالس، وهو المجلس الأعز إلى نفسي والأقرب بالنظر لرواده من أصدقاء وإخوة، جمعنا الزمن في لحظات جميلة معاً، من الأفكار الغريبة التي طرحت، فكرة تسعى لإثبات أن «الكذب» خصلة حسنة!

حينما نصف الكذب، نعرف تماماً أنه فعل منهي عنه، دينياً واجتماعياً من النواحي الأدبية والأخلاقية، وهو فعل مذموم، لأن فيه من التضليل وحرف الحقيقة ما قد يوقع أضراراً لكيانات أو أفراد، فيه من التداعيات ما قد تؤدي لكوارث، إلى آخر نتائج الكذب، هذه الصفة التي نستسهلها.

ما نعرفه أن الكذب لا لون له، بالتالي كان الجدال بشأن وجود كذبة «سوداء» وأخرى «بيضاء» مبنياً على أساس رفض التصنيف «المبتكر» هذا، والذي جاء ليبرر البشر لأنفسهم الفعل، دون إحساس بالذنب، وتجنباً للإحراج مجتمعياً.

في شأن الجدلية أعلاه، لا يوجد قول غير أن «الكذب» لا لون له، هو فعل واحد، سواء كانت كذبة كبيرة أو صغيرة جداً، وهو فعل منهي عنه دينياً، وهناك أحاديث عديدة عن رسولنا الكريم تنهى عنه، وتفيد بأن المسلم ليس من خصاله الكذب.

أعود للمجلس والأفكار المتقاذفة في أجوائه، ففي شأن الكذب، ما طرح أمر يدخل في سياق جدلية الكذبة البيضاء أو السوداء، لكن من منظور آخر، إذ لأول مرة أسمع عن مصطلح يُطبق عليه «الكذبة الطيبة»! نعم أتساءل مستغرباً، هل هناك «كذبة طيبة»؟! الكذب واحد، فأي طيبة فيه؟!

يقول مبتكر المصطلح، منطلقاً من وجهة نظره، والتي بناها على تركيبته الشخصية التي لا تحب الصراعات بين الأفراد، ولا تأجيج الخلافات بين شخصين عزيزين عليه، على سبيل المثال، يقول بأن الظروف أحياناً تضع في مواقف تضطر فيها «لعدم قول الحقيقة»، أي بما معناه «الكذب»، لأن قول الحقيقة قد يتسبب بمشاكل أكبر، وقد يفاقم الأمور بحيث لا يمكن إصلاحها، ضارباً مثالاً الخلاف بين الصديقين وكيف أن قول الحقيقة المجردة قد تنهي أي أمل في المصالحة، ولكن «الكذبة الطيبة» هي الحل هنا!

طبعاً لست ممن يتفق على وجود كذبات بيضاء أو أخرى طيبات، لأن الكذب فعل خاطئ مهما تنوع وتغير.

لكن السؤال المهم هنا، إذ هل بالفعل بات مجتمعنا اليوم كارهاً للحقيقة المجردة، قابلاً باستيعاب الكذب الملون أو ما يسمى بـ»الكذبة الطيبة» حتى يتجنب أفراده أية تداعيات مؤلمة، أو صدمات موجعة؟!

سألت السؤال، فأجابني أحد الجلوس: المجتمع بات لا يتحمل الصراحة، وقبول المناورة أو الكلام الملتف، أو الكذب غير الناتج عنه ضرر، بات أفضل من الصدمة بسبب الحقيقة، الناس يريدون أن يتخدروا أحياناً، ليبتعدوا عن الواقع!

سألته إن كان في الجملة التي قالها يمارس نوعاً من «الكذب الطيب»؟! فأجاب ضاحكاً غامزاً بعين واحدة: «أنا لا أكذب، بل أتجمل!».