نص - جعفر يعقوب
يا يوسفي الصغير، ليس غريباً أن نسقط ونسقط مرات في بئر الكتابة! لو لم ينهض الطفل الذي بداخلنا حين تعثر أول مرة في الرواية الأولى لما استطاع أن يمشي بثقة!
هل تنتظر من يخلصك من البئر؟ أتنتظر جناح معجزة أو بساط إلهام سماوي لانتشالك من السقوط؟
صدقاً صدقاً، يا يوسفي الصغير، في جب الكتابة لا تحدث الخوارق، ولا يستيقظ المارد من الفانوس؛ ليخرج كاتباً من المغارة مرتدياً جأش عنترة، وحاملاً عطر بابلو نيرودا.
اكتب بلا تترد، انهض، حاول، وحاول إن لم تستطع، قبل أن يجف حبرك، قبل أن تهرب عصافير الكلمات منك، فالعصافير لا تعود لأقفاصها إذا عانقت الحرية.
سقوطك في البئر لا يخط نهايتك، فبطن الحوت أضيق، وأكثر سجناً وظلمة، لكن يمكن ليونسك أن يوقد تراتيل تسبيحاته، يغترف من اليم زهرة الخلود، فيستحيل الجب عالماً واسعاً، ومدينة للعشق والبخور.
أشعل من الظلمة عود ضوء، همسة تسامح، قصيدة دمشقية، وابن من حزنك قصر فرح، ولو كنت بين حيطان الجب.
حولك الماء فلا تغرق في همك، اجعل ما حولك سيمفونية، بجعا يسبحن في بحيراتك الراكدة؛ لتبقى على جدران الحياة أسطورة خرافية، وأجراساً تعزف على الكنائس، فالبذور العطشى تستاف لغة الماء. انهل مما حولك قصائد تحلق بك بعيدا؛ فالإنسان بلا شعر كائن ميت، جثة جوفاء محنطة!
ارتو وامتلئ بالكتابة، فاليباب عطش متوحش لن يتخمك إلا رعونة وجفافاً، جفاف الروح، العقل، والأحاسيس.
أخرج من البئر الذي سقطت فيه، أخرج من زوبعة الظلام الذي يلتف حولك، السراب الذي يمنعك من رؤية النور والمطر والفراشات ومزامير داود، وقيثارة الملائكة، وتراتيل الرومي، وشموخ النخيل، وحنين الشواطئ، وصهيل البنفسج والمرافئ.
خارج البئر تشهق القمم، وحلم السفوح وذروة الأحلام. بينما لن ترى داخل القبو سوى القعر واحتراق الكتابة، وانتحار نصك الأخير.
وحين تتماهى مع القاع لن تطمح لوهج النجوم الحالمة وصحبة الثريا الخالدة، بل سيسحبك الحضيض إلى عمق القاع المظلم، سيتلاشى أدونيسك الكبير ودرويشك المقاوم.
ولطفاً، يا صغيري إن لم تستطع الخروج من البئر، فلا أقل من أن تحلم بالخروج منه، واكتب وروحك ترفرف خارج البئر، وإن بقي جسدك أسيراً داخل البئر، لا تثقل قلبك بوجع الحزن، فالقشة الخفيفة تطفو فوق السطح، ولو كان الجب يمور طاميا بلجة البحر.
اغرس في قلبك الأمل بأنك ستكون في الخارج حتما، حتى لو طال عليك الأمد فيه، وسترى الشمس معك في الجب ترقص على الماء. اكتب عما رأيته في الداخل، لتكن تلك تجربتك التي لن تعيشها بعد ذلك، فإن الفرص الكبيرة قد لا تتكرر، فتكون قد كتبت عنها بإحساسك الصادق، بقلبك الحي.
لا تهدر الوقت، خذ قلمك واكتب، يا يوسفي الصغير ، فبعد قعر البئر ستصل للأعلى، ستتربع عرش القوة، ستكون كلمتك أقوى، وحروفك الباذخة التي ولدت في رحم العتمة والخوف ستبذر ضوءا وقمحا؛ لأنك أشعلت قناديل قلبك بالأمل، والحب والقوة وأنت في غبشة العتمة، فالضوء الذي يخرج من وسط الظلمة يبزغ قويا، ويهزم الحلكة ولو كان الظلام بحجم السماء، ألا ترى نجمة صغيرة تشع بريقا يتحدى غلس الديجور، وتتلألأ ولو كانت على بعد مسافة آلاف الأميال؟ ولا حياة لمن يعيشون في الجب مهزومين من أول سقوط.
أخرج قويا حتى تكون أقوى حين تسقط في بئر آخر، فكم هي الحياة مملوءة بالحفر والجباب!. حينها ستكون قصتك من أحسن القصص.