بما أننا نعيش في أجواء الاحتفال بمرور 100 عام على التعليم النظامي في المملكة، أخذت استعرض تاريخ رحلتي في تلقي المعرفة ، كنت طفلا صغيرا، واتفقت الوالدة مع الوالد على انضمامي إلى أحد المطاوعة، لدراسة القرآن الكريم، وهذا التدريس كان له وجود قليل، ويوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

أخي الكبير عبدالله ألحقته جدتنا بمستشفى الإرسالية الأمريكية، وكذلك أخي علي وأحمد ولم يدخلوا مدرسة نظامية قط إلا المطوع، وألحقتهم جدتنا بنفس المستشفى منذ الصغر، ليكونوا عونا لأهلهم برواتبهم الزهيدة في ذلك الزمان لمجابهة مصاريف البيت، وتدرجوا في سلم العمل، الذي أصبح لهم كوظيفة ومدرسة، وأجادوا اللغة الإنجليزية قراءةً و كتابةً والحساب، وبعثوا في دورات دراسية في الهند، عبدالله أصبح ممرضا أول ومساعدا في غرفة العمليات، وأشهر الأطباء الأمريكان الذين تتلمذ أخي عبدالله على أيديهم، د. هريسون وإستورم، وسافروا معهم في بعثات علاجية إلى الأحساء والرياض في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله واسكنه فسيح جناته، وعاصروا أطباء أمريكيين آخرين مثل د. ديم قبل هريسون وإستورم لفترة قصيرة وأخيرا الطبيب الهندي كوشي، والإداري القدير يوسف حيدر، ومدة عمل أخي عبدالله بالمستشفى 60 سنة !؟.

أحمد بدأ عمله كمضمد وجبر الكسور، ثم أصبح مصور أشعة أول ، ثم خبيرا في المختبر، واستمر في عمله حتى تقاعده بعد أن أمضى 60 عاما في العمل المتواصل أيضا.

أما أخي علي، فلم يستمر في المستشفى إلا فترة قصيرة، وتعلم قيادة السيارات الخفيفة وترك عمل المستشفى، والتحق بشركة نفط البحرين( بابكو) وهنا تعلم قيادة أكبر السيارات الموجودة في الشركة، مثل الشاحنة (فودن)، والباصات الخفيفة والثقيلة والكبيرة التي تقل العمال والموظفين من مدنهم وقراهم كل يوم ذهابا وإيابا، واشهر تلك الباصات المسمى سالم الخطر، بعضها يستوعب 70 راكبا والأوسط 80 راكبا، وهناك ما يستوعب أكثر من ذلك، واستمر في عمله حتى تقاعده وقضاء 35 سنة في عمل متواصل، رحمهم الله تعالى جميعا.

والدتي رأت أن المتلقين الدراسة عند المطوع وأشهرهم في فريقنا(فريق بوصرة) المرحوم المتبحر في علوم الدين، والحافظ للقرآن الكريم والأحاديث النبوية عن ظهر قلب الشيخ عبدالرحمن بن عيسى الشنو، الوالدة رأت أن جميع الدارسين أكبر مني سنا، بفارق شاسع، فذهبت بي إلى المطوعة نورة أم النوخذة راشد بن داوود الدوسري، نورة لا تقبل إلا البنات، لكنها رأتني صغيرا فقبلتني دارسا للقرآن بين البنات، وعندما علمت النسوة أن المطوعة قبلت صبيا، أعلنّ احتجاجهن، وهددن بسحب بناتهن من عندها، لكن المطوعة نورة عرضتني عليهن، وقالت لهن، هذا الذي أثار احتجاجكن - وكنت لا أتجاوز الخامسة من عمري-، ولن أقبل غيره، والأمر لكن، وهو من أهلي ( حسبة ولدي)، فوافقن على وجودي بين بناتهن الصغيرات، ثم نقلتني الوالدة إلى المطوعة سعيدة، وبيتها لصيق لبيتنا من جهة الشمال.

الوالد قرر إدخالي المدرسة الدينية القريبة من منزلنا بسوق المنامة العاصمة، ودرست فيها سنتين وكان مديرها المرحوم أحمد بوبشيت، وتعلمت أصول الدين والقرآن والكتابة والحساب.

ومن دون أن يدري أبي، توجهت إلى المدرسة الغربية بالمنامة، بتوجيه من صديق الطفولة المرحوم سلمان محمد سلمان الجاسم، القريب من العائلة من ناحية الوالدة.

نظام الانخراط في المدارس النظامية، يبدأ من أول روضة وثاني روضة، ثم أربع سنوات ابتدائية، ولا وجود لمرحلة الإعدادية، والناجح من المرحلة الابتدائية رأسا يتوجه إلى المدرسة الثانوية ومدة الدراسة فيها أربع سنوات، وفي وقتنا لا توجد إلا ثانوية واحدة في عموم البحرين، ثم أضيفت سنة أخرى لنيل شهادة التوجيهية، وأغلب التلاميذ الذين ينجحون في الابتدائية يتوجهون للعمل إما مدرسين بإدارة المعارف –وزارة التربية والتعليم – أو يلتحقون بالدوائر الحكومية كموظفين وكتبة (كراني)، أو العمل لدى الشركات مثل كانو وكريمكنزي، أو البنوك الأجنبية مثل البنك الشرقي، وأكثر الشركات الجاذبة لأكبر عدد من الناجحين يتوجهون إلى شركة نفط البحرين(بابكو)، وهؤلاء كانوا أكثر حظا من غيرهم، إذ أُلحقوا بمركز التدريب (برانتس) التابع لبابكو، وحصلوا على خبرة صناعية في مجالات شتى إلى جانب التبحر في اللغة الإنجليزية والمعاملات المحاسبية والهندسة.

بالنسبة لي، وكوني درست في المدرسة الدينية سنتين، وأصبح لدي إلمام بالقراءة والكتابة العربية والحساب، رأسا قبلوني في الصف الأول الابتدائي، وأنهيت الدراسة الابتدائية في أربع سنوات ولله الحمد، وأحببت مواصلة الدراسة الثانوية.

كان مدير المدرسة الغربية المرحوم حسن جواد الجشي، الأديب والسياسي المخضرم، هو مدير للمدرسة آنذاك، إلا أنه يتولى تدريس اللغة العربية وآدابها للصف الرابع الابتدائي أيضا، وهو مولع بالشعر العربي وكاتب في مجلة البحرين وناظم للشعر، ويحفظ الكثير من القصائد العصماء لكبار الشعراء العرب من عصر الجاهلية والإسلام، والشعراء المحدثين مثل شوقي وإبراهيم العريض والأخطل الصغير وحافظ إبراهيم، وشعراء المهجر وأغلبهم من لبنان، ويأتي على رأس هؤلاء إيليا أبو ماضي، حيث أتحفنا المرحوم المدير المدرس حسن جواد الجشي، بقصيدته العصماءُ( وطن النجوم) التي ألقاها في بيروت في محفل كبير ومميز وبحضور جهابذة الشعراء والأدباء في الوطن العربي، عند مقدمه من أمريكا زائرا لوطنه بعد غيبة طويلة، ومطلعها:

وطن النجوم ... أنا هنا ... حدّق ... أتذكر من أنا ؟

ألمحت في الماضي البعيد ... فتى غريرا أرعنا ؟

جذلان يمرح في حقولك ... كالنسيم مدندنا

المقتنى المملوكُ ملعبُهُ ... و غيرُ المقتنى

يتسلّق الأشجار لا ضجرا ... يحسّ و لا ونى

أنا ذلك الولد الذي ... دنياه كانت ها هنا

أنا من مياهك قطرة ... فاضت جداول من سنا

أنا من ترابك ذرّة ... ماجت مواكب من منى

الى اخر القصيدة الجميلة، التي تعبر عن حب العربي لوطنه، وإخلاصه له، مهما باعدته السنون عنه، وعاش في رغد عيش، مع أنه في وطنه الأم، كان يكابد البؤس وشظف العيش، وقسوة الحياة، الوطن هو الروح التي تسري في الجسد وتمده بالحياة.

ومن التلاميذ الذين كانوا معي في الصف الرابع الابتدائي عام 1952، صاحب السعادة و المعالي الوزير جواد سالم العريض، الأديب عبدالله عبدالعزيز الذوادي، الطبيب خليل إبراهيم بن رجب، الدكتور اكبر محسن ،جاسم محمد الأمير، احمد عبدالله سلمان الجاسم، وتلاميذ آخرين لم تسعفني الذاكرة على تذكرهم مع انهم جميعا في سويداء قلبي وذكرى طيبة لا تنسى.

ومن الأساتذة الذين تلقينا المعرفة عنهم محمد صالح عبدالرزاق القحطاني، محمد إبراهيم المهزع، سلمان عبدالله سلمان الجاسم، أحمد المهزع ، سلمان الصفار، سلمان الصباغ، خليفة الرميحي، إبراهيم بن رجب، يسير وهو عربي من فلسطين، صلاح من مصر العربية ، محمد الإدلبي من سوريا، محيي الدين وهيب من الأردن أو فلسطين ، رؤوف شركس من لبنان، ومن الأساتذة البحرينيين أيضا حميد العريض، سرحان، والسكرتير إسماعيل العريض، وغيرهم من الأساتذة الكرام الذين يجب أن ترصد أسماؤهم وتذكر في سجل الخالدين، ويعرج على ذكرهم في كل عام احتفالا بتأسيس التعليم النظامي في مملكتنا الحبيبة في جميع المدارس بنين وبنات، وحفظ الله تعالى بلادنا وقيادتنا الرشيدة وشعبنا المخلص ،وأدام علينا نعمة الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، والتضامن العربي والإسلامي.