قصة قصيرة - ناصر سالم الجاسم*
قنوات الري الخرسانية التي بناها الألمان تطوق القرية الصغيرة من جميع جهاتها. وفتيات القرية يغسلن ملابسهن وملابس عائلاتهن والأواني والصحون فيها ثم يسبحن، وأشجار خضاب نبتت بجوار القنوات تظللهن وتسترهن وهن يعصرن سراويلهن.
رجال القرية يتطهرون من جنابة الفجر في المصرف المائي الكبير الذي يشق القرية إلى نصفين، والأسماك والطيور التي تسبح فيه تصنع مائدة لا بأس بها لفقراء القرية. لقد بات المصرف بالنسبة لهم أشبه بالنيل.
مس شعاع الشمس عيون الأطفال النائمين في براحات البيوت فتركوا فرشهم القطنية المهترئة الموروثة عن إخوانهم الكبار والتي ملت البول ومزقها الغسل الدؤوب، وانطلقوا يدعكون عيونهم ويلتقطون بأظافرهم من زواياها فضلات النوم الخضراء متجهين إلى بر القرية الرحب يطاردون الخنافس الطائرة ويتنافسون على قتلها بعذوق النخل اليابسة وبالقوي من أجزاء الكراتين المباعة بقرشين. كانت الخنافس تقبض على فضلات الآدميين المفرغة في البر دون ترتيب بأرجلها فتدحرجها بتفنن وإتقان دون أن تفلت من أرجلها إلى أهداف غير محددة فيترصد لها الأطفال وينشرحون إذا حالوا بينها وبين الفضلات بأعوادهم. وأطفال الفلاحين بثيابهم المصبوغة بعرقهم أو بلون الأرض يدفعون عربات اليد المحملة بالبرسيم وأقفاص الرطب وخيشات الرمان على الطرق الزراعية.
الطباخون نجحوا في إشعال النار في جذع النخلة المشطور إلى نصفين بالكاز الذي لا يرى الناس سيارته إلا مع دخول فصل الشتاء فيتهافتون على شرائه بما ادخروا من مال، وربما قرعت جميع أبواب القرية ونادى الحاضر فيها الغائب في نخيلها لهذا الغرض.
نساء القرية مجتمعات في بيت العريس وأمه أحضرت لهن السكاكين وجلست تشرف عليهن وهن ينظفن الأرز وينقعنه ويقطعن البصل على لوح خشبي كبير ويقشرن الثوم ويستخرجن لبّه وعيونهن تدمع. الكل في القرية فرح مسرور بذبح بقرة للمدعوين إلى العرس ويمني نفسه بعشاء دسم إلا "براق" ظل جالساً في بيته ينظر إلى بناته الأربع وهن يشتغلن بصنع "الجواليج" من خوص النخل المبلول ليكنز فيها التمر بعد بيعها في سوق القرية.
جعل براق يفتح حافظة التبغ المطلية بلون الذهب ويأخذ منها بسبابته وإبهامه قدراً كافياً لإنعاشه بمعياره الخاص ويلفه في وريقات رقيقة ويدخن ويسأل نفسه: لماذا لا تخطب بناتي لشباب القرية وأنا أشرب القهوة في مجالسها وأرقص في أعراسها وأدفن معهم موتاهم وأقرضهم ويقرضونني؟ لماذا أبيع "الجواليج" في السوق ملثما؟ ولماذا بناتي لا يلبسن البرقع مثل جيرانهن وعماتهن وخالاتهن؟ لقد علمتهن ركوب الحمار الحساوي بدل البعير وحلب البقر بدل حلب النوق، حتى زوجتي أنسيتها اسمي في خلوتي معها وبناتي إلى الآن لا يعرفنه. وأمهن أخبرتني في الفراش ليلة أمس أن أصغرهن قد حاضت.
قام براق يتوضأ فزاره الوسواس فشك في عدد مرات المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه فأعاد وضوءه مرتين وتسوك ليعطر فمه ودهن شاربيه ولحيته بدهن العود، ولبس ثوبه المغسول في قناة الري وتقلد سيفه وربط حزامه المملوء بالرصاص حول خصره وصلى العشاء وراح إلى العرس مع الرائحين ورقص مع الراقصين بعنفوان ابن العشرين وكشف عن لثامه وفروسيته المعطلة عشرين عاماً فانبهر الحاضرون، ثم توقف عن الرقص وحكى قصته للحاضرين شعراً وأوضح فيها اسمه وقبيلته وسر هروبه وخوفه على عوراته بعد مماته ورقص مرة ثانية ومجموعة من شباب القرية تحيط به.
روائي وقاص من المملكة العربية السعودية