كلما تواجدت في ندوة أو فعالية ثقافية أو حفل موسيقي أتمعن في وجوه الحضور، فإذا وجدت تنوعا بين الأجيال المتواجدة في هذه الندوة أو الفعالية يزداد فرحي بهذا التمازج والنسيج المشترك بين الأجيال المهتمة بالأدب والثقافة والفن، وكلما وجدت الحضور مقتصرا على جيل واحد أصاب بشيء من الإحباط والضيق.
والسؤال هل توجد فجوة فعلية بين الأجيال المبدعة؟ وهل هذه الفجوة واقعية أم مجرد افتراضات من الوسط الأدبي والثقافي؟ من يتأمل واقع الحراك الأدبي والثقافي المعاصر في البحرين يجد أن هناك ثلاثة أجيال من المبدعين الذين يساهمون بالكتابة شعرا وسردا ونقدا.. الجيل الأول هم جيل الرواد الذين ساهموا بجهدهم وفكرهم وتعبهم في إرساء دعائم هذا الحراك منذ ستينيات القرن الماضي ومازال البعض من هذا الجيل مستمرا في العطاء ومتواجدا في الفعاليات ومشاركا في المداخلات والنقاشات التي تثري مواضيع الحوار كلما كان ذلك ممكنا، ووجودهم يضفي على المكان بهجة وسرورا واحتراما وتقديرا.. ويساهم بإيجابية في دعم التجارب الشبابية ويشجعها على الاستمرار والصمود أمام المعوقات.. والبعض الآخر من هذا الجيل لا يتواجد في مثل هذه المناسبات والفعاليات ولا نراه إلا نادرا.. فمنهم من تمنعه الظروف الصحية أو المشاغل الحياتية من المشاركة وقد نعذرهم في ذلك فمشاغل الحياة كثيرة.. ومنهم من لديه موقف سلبي فيما يشبه القطيعة من كل هذا الحراك الذي لا يعجبهم، حيث إنهم لا يعترفون سوى بإبداعاتهم فقط وكأن الزمن توقف عندهم ولم يتحرك إلى سواهم.
أما الجيل الثاني من الأدباء والكتاب الذين يمارسون الإبداع الكتابي بكافة أشكاله فهو جيل الوسط المرتبط بشكل أقرب الى الجيل الأول، حيث تشرب بأفكارهم وتتلمذ على أيديهم، وكان رواد الجيل الأول بالنسبة للجيل الثاني هم الرموز البحرينية المطورة للحراك الأدبي والمتفاعلة مع المدارس والاتجاهات الأدبية العالمية والعربية سواء في مجال الشعر أو السرد أو الفن أو المسرح، لذلك فالمسافة بين هذين الجيلين تكاد تكون غير ملموسة وواضحة بالشكل الذي يخلق منها ملامح تمكن من الاستدلال على وجود فجوة مؤثرة، وإن كان هذا الجيل قد وضع له بصمات قد تكون مختلفة نوعا ما عن بصمات الجيل الأول بحكم اختلاف الرؤى والاتجاهات الأدبية والتأثر بالأساليب الأجنبية، وبالرغم من محاولات هذا التمايز لدى هذا الجيل إلا أنه لا يوجد تنافر أو قطيعة بينهما في المطلق من الحالات.
الملاحظة التي يمكن الوقوف عندها في هذا الشأن هي عدم اكتفاء هذا الجيل من الأدباء والكتاب بالموهبة والابداع والثقافة العامة وحدها كمتكأ للوصول الى المجتمع الثقافي كحال العديد من رواد الجيل الأول، وإنما اتجه الجيل الثاني إلى التحصيل الأكاديمي العالي لصقل الموهبة بالدراسة الأكاديمية حيث أتيحت لهم الفرص الأفضل من الجيل الأول الذين لم تتح لهم الفرص السانحة لهذا التحصيل الأكاديمي الا للقليل منهم الذي سعى الى الاشتغال على صنع ذاته من خلال طموحه الشخصي وتحين الفرص الممكنة لبلوغ أهدافه، والبعض الآخر من هذا الجيل اكتفى بالحصول على التأهيل الأكاديمي في مراحله الأولى.
لقد كان لتوجه الدولة مع بداية الثمانينيات لإنشاء المعاهد والكليات الجامعية والجامعات الدور المؤثر في هذا الاتجاه نظرا لاحتياج هذا القطاع التعليمي الجديد إلى توطين كوادره العلمية والأكاديمية والإدارية أيضا مما أنتج جيلا مؤهلا يسهم الآن في الحراك الأدبي والثقافي ويعزز اتجاهات الجيل الأول من الرواد في دعم مشاريعهم الأدبية وتناول نتاجهم بالنقد والتحليل العلمي الذي تعلموه في الجامعات مما ساهم في بروز الكثير من الدارسات النقدية المهمة.
ثم نأتي أخيرا إلى الجيل الثالث من المبدعين في المجال الأدبي والثقافي، وهم جيل الشباب الذين يحاولون بتجاربهم الجديدة البحث لهم ولهذه التجارب عن مكان مناسب على خريطة الحراك الأدبي تدفعهم في ذلك الرغبة في التمايز عن الجيلين السابقين، إما بأطروحات وموضوعات مختلفة، أو تبني لغة مغايرة تعكس طريقة استخدامهم للغة بشكل مختلفيرضي توجهاتهم الإبداعية. هناك البعض من هذا الجيل من يحاول الممازجة بينه وبين الأجيال السابقة بجرعات من التغيير مقبولة لدى الغالبية من الأدباء، والبعض الآخر تبنى الانفصال عن الجيل السابق بلغة وأسلوب مغاير وخلق فجوة ظاهرة لمن يرصد هذا الحراك.
للتدليل على ذلك هناك مثال واضح من فعاليات أسرة الأدباء والكتاب حيث نجد أن نوعية الحضور تعتمد على موضوع الفعالية واسم المتحدث.. فإذا كان الموضوع يتناول قضية تتعلق بأدب الشباب، أو أن المتحدث من الشباب أنفسهم، نجد القاعة تغص بالحضور الشبابي، أما إذا كان الموضوع يتناول قضية أدبية مهمة أو أمسية شعرية لشاعر معروف نجد الحضور الشبابي يكاد أن يكون مختفيا إلا النزر القليل منهم.. وهذه ملاحظة قد يتفق معي الكثير من المهتمين والمتابعين وهي ليست متعلقة بفعاليات أسرة الأدباء والكتاب فقط بل تجدها لدى مؤسسات أدبية وثقافية أخرى.. وهذا ينم عن وجود إشكالية في هذا الموضوع تستحق الوقوف عندها ومحاولة دراستها ووضع الحلول المناسبة لها.
أتذكر في هذا السياق ونحن نحتفل هذا العام بخمسينية تأسيس أسرة الأدباء والكتاب الندوات والأمسيات الشعرية التي كانت تنظمها الأسرة منذ عام 1970 مع بدايات التأسيس والتي كنا نقيمها في نادي النسور بالمنامة أو نادي البحرين بالمحرق حيث كانت القاعة تضيق بالحضور من مختلف الأجيال والشخصيات المعروفة، وبالرغم من كل المحاولات التي كنا نبذلها في وضع مقاعد إضافية للجمهور، إلا أن هناك عددا من الحضور لا يجد مقعدا يجلس عليه فيظل واقفاً طوال مدة الفعالية كي لا تفوته فرصة الاستماع والمشاركة.
لقد حرصت أسرة الأدباء والكتاب سواء الإدارة الحالية أو السابقة على استقطاب الشباب المهتمين بالأدب شعرا وسردا وكونت لهم أندية داخل الأسرة تعنى بالقصة القصيرة والسرد والشعر لتكون هذه الأندية بمثابة مختبرات لتداول نتاجاتهم الأدبية وتدارسها في جلسات خاصة بهم وتداولها فيما بينهم بالنقد والتحليل بهدف تعويدهم على قبول الرأي الإيجابي والرأي الآخر، ومن يصلح من هذه الأعمال يقدم ضمن موسم فعاليات الأسرة الأسبوعي لتعريف الحضور بهذه الأصوات الشابة وإتاحة الفرصة لهم للتعامل مع الحضور، كي تستمر حركة الإبداع بين الأجيال وتجسير المسافة فيما بينهم.
وفي السياق ذاته اهتمت الأسرة بخلق شراكات مع بعض الجمعيات الثقافية الشبابية مثل "جمعية كلنا نقرأ" وغيرها عن طريق تنظيم فعاليات مشتركة تسهم في استقطاب مختلف الأجيال لإيصال صوت الشباب الى جيل الرواد من أجل خلق تناغم وتقارب بين التجارب الإبداعية.
إن النتاج الأدبي هو تراكم إبداعي بين مختلف الأجيال، فلا يمكن لجيل من الأجيال وحده أن يكون بمعزل عن الأجيال الأخرى مهما كانت إبداعات هذا الجيل، حيث أن أساس هذا الجيل هو تراث الأجيال السابقة وهكذا هو الحال في كل المجالات.. فلابد من تقارب وجهات النظر وتجسير المسافات بين الأجيال الإبداعية مهما اختلفت طرق ووسائل ولغة الإبداع بينهم.. فكل جيل هو نتاج زمنه وبيئته.
المطلوب من جميع المؤسسات المعنية بالشأن الأدبي والثقافي الالتفات إلى هذا الأمر بحيث لا تتسع المسافات بين الأجيال كي لا يصبح جيل الشباب مقطوع الجذور عن المنابع الأصيلة التي يستقي منها إبداعه.. ونرى فعالياتنا متنوعة الحضور والفكر والاتجاهات بين مختلف الأجيال فهي الدليل على صحة أي مجتمع ونموه.. فالحوار والتقارب هو الأسلوب الذي يوطد أسس العلاقات.. والمشاركة بين الأجيال المبدعة هي التي تختصر المسافات.